تحايل على امتدادات الوقت

نشر في 15-04-2013
آخر تحديث 15-04-2013 | 00:01
 فوزية شويش السالم عنوان المقالة كان تعليقاً من الدكتورة الزميلة والجارة في صفحة ثقافات من جريدة الجريدة، التي تعجبني كتاباتها في مقالها الأسبوعي، وكل ما تكتبه بشكل عام، كتبت تعليقاً رداً علي في "فيسبوك": "إن مساءات لندن الصيفية طويلة حين لا تغرب الشمس إلا حوالي الساعة العاشرة مساء، أعتقد أن جلسات الشاي الإنكليزي ما هي إلا تحايل على امتدادات الوقت، وتكون الحديقة المنزلية الخلفية مسرحاً لحياكة هذا الوقت".

ولأنها شاعرة أولا وأستاذة جامعية ثانيا، جاء تعليقها العادي في هذه البلاغة الجمالية مما حفزني بالفعل على كتابة هذا المقال عن امتدادات الوقت، وكيف له الدور الكبير في تحديد وتغيير عادات السلوك عند البشر، وهو الأمر الذي لاحظته في زيارتي هذه إلى انكلترا، فشاي العصر الذي هو معلم من معالم الحياة الانكليزية لا يُستغنى عنه حين تشرق الشمس ويمتد النهار الصيفي بحرارته اللطيفة التي تأتي بعد شتاء بارد وزمهرير طويل تحلو فيه جلسات شاي العصر في الحدائق والمقاهي وعلى كل مسطح أخضر، فكأن الناس تحتفي بالشمس والدفء الذي طال انتظاره، وما جلسات الشاي هذه إلا تعبيرا عن الفرح بتفتح الحياة بكل جنون الطبيعة الصاخب الذي يُشعر الناس بدفق صخب الحياة الهادر من حولهم، وهو الأمر الذي يختلف في موسم الشتاء الذي لاحظته وأدركت فيه معنى شخصية الشتاء بالكامل ومدى عنفه وسلطوية حضوره الفارضة حضورها على سلوك الناس وطباعهم وعاداتهم الشتوية، فهم في حالة هرولة مستمرة لالتقاط حاجياتهم من المتاجر والمحلات بسرعة بدون تسكع أو تضييع الوقت في تأمل المعروضات وفي الفرجة عليها. الكل في عجلة ورواد المقاهي والحدائق قليلون وحتى الشوارع ليست في حالة الازدحام الصيفي، والطابع العام هو التجهم فالبرد القارص لا يسمح بفرد جلدة الوجه ولا بحالة الاسترخاء ولا بفتح روح الود واللطافة.

ولأول مرة ألاحظ فيها بوضوح شخصية فصل الشتاء بكل تعنته وجبروت حضوره، فكل ما في الطبيعة يشهد له بذلك، بهذا العري الكامل للأشجار بلونها الخشبي الشاحب، وأغصان ضخمة متشابكة بوحشة وجرداء حتى العظم، وحركة اصطفاف جذوعها المعراة من صفع الريح لها، ومياه النهر مسودة باخضرار داكن ومتدثرة بسكون قانط خال من أي رونق للبهجة، كأن الحياة ملتفة ومجمدة في ثلاجة برد رمادي.

شتاء طويل يعقبه ربيع بهيج تتبرعم فيه كل ذرة في كل نبته وتدب الحياة في كل خامد وهامد وساكن، ولا يبقى فراش وحشرات أو عصفور أو بط أو طائر خارج عن محيط الحفل هذا الذي ينعكس بالطبع على كل من حوله، وأكثر من يتأثر بهذا الاحتفال هم الناس الذين جمد مشاعرهم صقيع البرد هذا، والذي يليه صيف قصير تجن فيه الطبيعة خاصة مع امتداد نهارها المشمس الطويل مما يزيد من انفتاح مشاعر الود والفرح التي تغذيها جلسات شاي العصر المسترخية في بهجة الصيف الحانية.

جلسات الشاي جاءت من روعة هذا الصيف الإنكليزي المتميز برهافة طبيعته وامتداد نهاره واحتفالات الفرح به، وربما كما قالت الشاعرة نجمة إدريس إنها تحايل على امتدادات الوقت، وأزيد على ذلك هو الاحتفاء بالشعور بالراحة والاسترخاء الذي يعقب كرب شتاء التجهم والعصاب الطويل، وهذا ما اكتشفته وشعرت به في سفرتي هذه إلى انكلترا، فلأول مرة أجد أن التواجد في المنزل هو النعمة بحد ذاتها داخل الجدران الدافئة ومراقبة عري الأشجار والحديقة عبر النوافذ المزدوجة الزجاج والعازلة ما بين العالمين، عزلة الداخل وحركة سنجاب راكض أو غراب وجد ضالته في حشرة هاربة.

العزلة هذه مفيدة بكل أحوالها فهي مصفاة لكل ما تراكم في الداخل من ضغوطات الحياة وإرهاق متطلباتها، فالوقت هنا يشابه شتاءه، ساكن وبارد ومعزول من الطلبات والمهمات والواجبات بكل أشكالها مما يتيح ساعات هادئة لسماع الأغاني المفضلة والموسيقى التي لا أجد لها الوقت في الكويت، كما أتمتع بقراءة الكتب التي أحضرتها، وأشاهد أفلام وبرامج كنت أتمنى مشاهدتها ولم أجد في الكويت ساعة فراغ تمنحني متعة رفاهية الوقت وهدره فيما أحبه وليس فيما هو مفروض علي عمله.

فشكرا لعزلة شتاء منحتني فرصة للشعور بمتعة السكينة والسكون.

back to top