سيرة جديدة عن «الدكتاتور» هتلر... جاذبية الوحشية!
لا أحد ينكر أن أدولف هتلر كان مسؤولاً عن عدد من الأعمال الأكثر وحشية على الإطلاق. لكن في مقابلة لـ {شبيغل} عن سيرته الجديدة، يناقش المؤرخ فولكر أولريش شخصية دكتاتور كان معادياً للسامية لكنه اتّسم بجاذبية خاصة.
إلى أي حد كان أدولف هتلر طبيعياً؟
لم يكن مجنوناً بقدر ما يريدنا بعض علماء النفس التاريخيين أن نظن، فهم يطرحون أفكاراً مبسّطة أكثر من اللزوم. ربما كان طبيعياً أكثر مما نتمناه.يعتبر معظم الناس أن هتلر كان مريضاً نفسياً. ويظن عدد من المؤرخين أيضاً أن الشخص الذي يستطيع ارتكاب تلك الجرائم لا يمكن أن يكون طبيعياً.لا شك في أن هتلر كان استثنائياً في أعماله الإجرامية. لكنه بقي شخصاً طبيعياً على مستويات عدة. لن نتمكن يوماً من فهم الأمور المريعة التي حصلت بين عامي 1933 و1945 إذا أنكرنا منذ البداية أن هتلر كان يتمتع بدوره بخصائص إنسانية وإذا لم نأخذ بالاعتبار الصفات الجذابة التي كان يتّسم بها إلى جانب طاقته الإجرامية. ما دمنا نعتبره وحشاً مرعباً، ستبقى جاذبيته المؤكَّدة مجرد لغز.نشر يواكيم فيست سيرة شاملة عن هتلر في عام 1973، ثم نشر إيان كيرشو سيرة أخرى مؤلفة من مجلّدَين بدءاً من عام 1998. ما الذي دفعك الآن إلى إنتاج سيرة ثالثة؟قدم فيست سيرة هتلر من باب الاشمئزاز والنفور. يحمل أحد فصول الكتاب المحورية عنوان {نظرة على شخص نكرة}. وكان كيرشو يهتم في المقام الأول بالبنى الاجتماعية التي بررت نشوء شخصية مثل هتلر، بينما بقي ذلك الشخص نفسه باهتاً في تعامله. أعيد هذا الرجل إلى الواجهة. لن يساهم الأمر في طرح صورة جديدة بالكامل عن هتلر فحسب، بل ستكون الصورة أكثر تعقيداً وتناقضاً مع النظرة المألوفة عنه.{هتلر الشخص} عنوان فصل تعتبره الفصل المحوري في كتابك. كيف كان هتلر الإنسان؟أكثر ما يلفت النظر في هتلر براعته في إخفاء شخصيته الحقيقية. أغفل الجميع عموماً عن قدراته التمثيلية الهائلة. لا يمكن أن نقول إنه كان صادقاً إلا في حالات نادرة. هذا ما يصعّب تحديد حقيقة هتلر الإنسان. كان يمكن أن يكون مرحاً جداً، حتى مع الأشخاص الذين يكرههم. لكنه كان بارداً جداً في الوقت نفسه حتى مع الأشخاص المقربين منه.في جزء معين من الكتاب، كتبتَ عن {سحر آسر}. السحر صفة لا ترتبط في العادة بهذا الرجل الذي يُعتبر مجرم القرن.تتّضح قدرته على استمالة من حوله عبر علاقته مع الرئيس الألماني بول فون هيندينبيرغ الذي أبدى في البداية تحفظات بشأن {العريف البوهيمي} كما كان يسمي هتلر. لكن بعد بضعة أسابيع على تعيينه مستشاراً، نجح هتلر في جعل هيندينبيرغ خاتماً في إصبعه لدرجة أنه كان يوقّع على كل ما يطلبه هتلر. ذكر جوزيف غوبلز بشكل متكرر في مذكراته أن الدكتاتور كان يستطيع التحاور بمرح مع أقرب معارفه، وكان يجيد الإصغاء إلى غيره جيداً.لكنه كان ينتقل أحياناً إلى سلوك خارج عن السيطرة. كانت أصغر الحوادث تكفي لإطلاق نوبة غضب.بحسب انطباعي الخاص، كان معظم نوبات غضبه مُحضّرة مسبقاً. كان يقوم بذلك عمداً لتخويف الناس حين لا يحقق ما يريده عبر التحدث مع خصومه السياسيين. خلال دقائق، كان يستطيع ضبط نفسه وأداء دور المضيف اللطيف.في خلفية هتلر، تقل الأدلة التي يمكن أن تشير إلى احتمال تحوله إلى قاتل جماعي. بدل تحقيق أمنية والده بأن يصبح بيروقراطياً شريفاً، انسحب هتلر ليرسم ويقرأ. قال أحد أصدقاء طفولته: {كانت الكتب تختصر عالمه الخاص}.كان هتلر يعشق القراءة وقد لازمه هذا الشغف في مختلف مراحل مسيرته. تملك {المحفوظات الاتحادية} في برلين إيصالات تشمل مجموعة من العناوين والأسعار من مكتبة ميونيخ حيث كان هتلر يشتري كتبه. تشير تلك الإيصالات إلى كمّ الكتب التي كان يطلبها، لا سيما عن الهندسة المعمارية، مع أن السير الذاتية والأعمال الفلسفية كانت تهمّه أيضاً. كان هتلر يقرأ الكتب بسرعة فائقة، لكن بشكل انتقائي أيضاً. كان يقرأ حصراً الأعمال التي تتماشى مع رؤيته العالمية والتي يمكن أن تفيده في مسيرته السياسية.هل يمكن أن تذهب إلى حد اعتباره شخصاً متذوقاً للفن؟كان اهتمامه بالفن استثنائياً حتماً. خلال إجازته في سبتمبر 1918، لم يمضِ وقته في بيوت الدعارة كما فعل رفاقه بل في جزيرة المتاحف في برلين.بعبارة أخرى، يمكن أن نقول: حذار من انخراط الفنانين في السياسة!إنه شعار مثير للاهتمام. لكن كان هتلر عادياً من الناحية الفنية. كانت موهبته العظيمة تتركز في المناورات السياسية. من السهل أن نقلل من شأن صفاته الاستثنائية والقدرات التي اكتسبها للنجاح في هذا المجال. خلال فترة ثلاث سنوات فقط، ارتقى من محارب مجهول إلى ملك ميونيخ، فملأ أكبر قاعات المدينة على مر الأسابيع.كان هتلر يحب الوحدة. لم يكن يدخن أو يشرب ثم أصبح نباتياً في نهاية المطاف. كيف يمكن أن ينجح شخص غريب الأطوار بهذا الشكل في جذب الحشود؟كانت ظروف ميونيخ في عام 1920 مثالية كي يظهر محرّض يميني، لا سيما إذا كان يجيد إلقاء الخطابات النارية بقدر هتلر. لكنه كان بارعاً في المجال التكتيكي أيضاً وقد تفوق على منافسيه تدريجاً. أحاط نفسه بأتباع كانوا يعتبرونه مثلهم الأعلى. وضمن الحصول على دعم أشخاص نافذين، لا سيما الزوجان براكمان، ثنائي محترم في عالم النشر، وعائلة بيشتاين التي كانت تصنع آلات البيانو، ولا ننسى عائلة واغنر في بايرويت، فقد بدأت هذه الأخيرة تعامله كجزء من العائلة بعد فترة قصيرة.حتى التقارير السابقة التي تحدثت عن براعة هتلر في إلقاء الخطابات تذكر تبادل الطاقة بينه وبين مستمعيه. كتب أحد شهود العيان في يونيو 1919: {انتابني شعور غريب وكأن حماسة الحشود كانت من صنعه وقد منحه الناس أصواتهم في المقابل}.لفهم مدى براعة هتلر في إلقاء الخطابات، يجب أن نتوقف عن اعتباره مجرد ديماغوجي لا يكف عن الصراخ، فقد كان يبني خطاباته بشكل مقصود. كان يبدأ بوتيرة هادئة جداً، وكأنه يستعد لما ينتظره ويحاول معرفة مدى تأثيره على الجمهور حتى تلك اللحظة. ما كان يصعّد لهجته وحركاته ويزداد عدائية إلا حين يتأكد من تجاوب الحشود معه. كان يستكمل ذلك الخطاب طوال ساعتين أو ثلاث ساعات إلى أن يبلغ ذروته، وكانت هذه المرحلة مؤثرة جداً لدرجة أنه كان يجعل عدداً كبيراً من المستمعين يبكون. حين نراجع مقتطفات من خطاباته الآن، لا نشاهد إلا الخلاصة العامة.في مرحلة لاحقة كتب كلاوس مان الذي راقب هتلر وهو يلتهم فطيرة بالفراولة في فندق {كارلتون} في ميونيخ في عام 1932: {هل تريد أن تصبح دكتاتوراً مع هذا الأنف؟ لا تجعلني أضحك}. هل كان لا بد من توافر قابلية معينة للانبهار بهتلر؟ كان كلاوس مان يكنّ نفوراً فطرياً من شكله منذ البداية. لكن برزت تقارير أيضاً عن أشخاص كانوا يحملون نظرة سلبية جداً عن هتلر في البداية قبل أن ينجح في استمالتهم بعد أن يختبروه. بين أوراق رودولف هيس الذي كان سكرتير هتلر الخاص بدءاً من عام 1925، وجدتُ رسائل حيث وصف لخطيبته جولاتهما التحريضية في أنحاء ألمانيا. في إحدى الرسائل، وصف اجتماعاً لرجال أعمال في مدينة إيسن في أبريل 1927. حين دخل هتلر الغرفة، قوبل بصمت مطبق ورفض تام. بعد ساعتين، علا التصفيق في أنحاء الصالة. كتب هيس: {كان الأمر أشبه بأجواء سيرك كرون (في ميونيخ)}.لا تزال حمى الخطابات النارية التي كان يلقيها هتلر في المؤتمرات الحزبية حية في أذهاننا حتى هذا اليوم. كيف كان صوته في المجالس الخاصة مختلفاً عن الصوت الذي يستعمله في الأماكن العامة؟تقلّ التسجيلات التي يتحدث فيها هتلر بصوته الطبيعي. لكن في التسجيلات المتوافرة، من الواضح أنه يتمتع بصوت دافئ وهادئ. نبرته مختلفة كلياً عن تلك التي يستعملها خلال ظهوره العلني.سُئل فيست في إحدى المقابلات {هل كان هتلر معادياً للسامية؟}. بعبارة أخرى، هل كان كرهه لليهود ناجماً عن قناعة مترسخة فيه أم كان الأمر في المقام الأول مجرد وسيلة لتحريض الحشود؟ هل كان هتلر معادياً للسامية فعلاً؟لا شك في ذلك. كان العداء للسامية، في أكثر أشكاله المتطرفة، جوهر شخصيته. يستحيل أن نفهم هتلر من دون هذه النزعة. وصف سول فريدلاندر الأمر بعبارة {معاداة السامية التعويضية}، وهي مناسبة جداً. كان هتلر يعتبر اليهود تجسيداً لكل ما هو سيئ وسبب الشرور كلها في العالم.لكن لم يكن الوضع كذلك منذ البداية.أوحى هتلر في كتابه الذي حمل عنوان {كفاحي} بأنه أصبح متعصباً في معاداته للسامية أثناء وجوده في فيينا. لكن ما من أدلة على أنه أطلق أي تعليقات مهينة عن اليهود قبل الانتقال إلى ميونيخ. بل إنه حافظ على علاقات ودية مع اليهود في مهجع الرجال حيث أقام طوال ثلاث سنوات في فيينا. كان التجار الذين اشتروا لوحاته بسعر معقول من اليهود أيضاً.هل اختبر تجربة {اعتناق} مبدأ معاداة السامية؟نعلم أن هتلر أصبح معادياً متطرفاً للسامية خلال ثورة ميونيخ التي اختبرها شخصياً بين عامي 1918 و1919 وكانت تتخذ منحى يسارياً متطرفاً في البداية قبل أن تعود وتتجه نحو اليمين المتطرف. شهدت جمهورية ميونيخ السوفياتية التي نشأت لفترة وجيزة وصول عدد من اليهود إلى مراكز بارزة، مثل إرنست تولر ويوجين ليفين وإريك موهسام. هذا ما أدى إلى انتشار نزعة معاداة السامية على نطاق واسع في أنحاء المدينة.تتحدث عن رسالة لم يُكشف عنها سابقاً وتعود إلى أغسطس 1920 حيث سجل طالب حقوق من ميونيخ آراء هتلر بعد مقابلته. في ما يخص اليهود، قال هتلر إنه أعلن ضرورة استئصال هذا الفيروس واعتبر أن وجود الشعب الألماني أصبح على المحك. إلى أي حد كان هتلر جدياً في تصريحاته في تلك المرحلة؟لم يكن المشروع السياسي الذي اشتق من رؤيته العالمية يشمل أعمال القتل الجماعي في تلك المرحلة. رغم خطاب الإبادة، كان {التخلص من اليهود} في تلك الفترة يعني طردهم من ألمانيا. لم يصبح {الحل الأخير} الذي يعني القتل المنهجي ليهود أوروبا جزءاً من الخطة قبل بداية الحرب العالمية الثانية.في فترة مذابح {كريستال ناخت» في 9 نوفمبر 1938، اتضح أن جميع من يعتبرهم النظام أعداءه باتوا يفتقرون إلى الحقوق أو الحماية. كنتَ محقاً حين كتبتَ أن ألمانيا أخذت إجازة من الدول المتحضرة في تلك المرحلة. لكن حتى هذه الأحداث فشلت في تقليص شعبية هتلر.يصعب أن نحدد رأي الشعب كله بتلك المجازر. استناداً إلى مصادر مثل تقارير الجيستابو حول الجو العام الذي كان سائداً في البلد، أظن أن معظم الشعب لم يوافق على أعمال العنف تلك. ما يثير الاهتمام أن مذابح {كريستال ناخت» لم تكن مرتبطة بهتلر. فهو نجح في البقاء وراء الكواليس، مع أنه كان يحرك اللعبة مع قادة نازيين آخرين تحمّلوا مسؤولية ما يحدث. بسبب عدم تحمّله المسؤولية المباشرة في هذا المجال، راح الناس يقولون «لو علم الزعيم بالأمر لما حصل ما حصل...».يمكن ملاحظة اهتمام هتلر بصورته أيضاً عبر طريقة مقاربته للمسائل المادية. حين طرح نفسه كقائد متواضع ظاهرياً، عمد سراً إلى إعفاء نفسه من الضرائب كما ذكرتَ في كتابك.في أكتوبر 1934، لاحظ مسؤول مجتهد في مكتب الضرائب في شرق ميونيخ أن هتلر يدين بضرائب قيمتها 405 آلاف رايخ مارك. أُلغي أي أمر بدفع هذه الضرائب المتأخرة، ثم تم الإعلان عن إعفاء هتلر من دفع الضرائب وتعرض المسؤول الذي لاحظ المشكلة لتوبيخ شديد.بدءاً من عام 1937، ظهرت طوابع تحمل صورته وكان هتلر يتلقى نسبة من عائداتها.لطالما أحبّ هتلر الرفاهية. ليست صدفة أنه كان يقود أحدث وأغلى سيارات {مرسيدس} في السنوات الأولى. ولا تتماشى شقته المؤلفة من تسع غرف في ميونيخ مع صورة رجل الشعب البسيط الذي يكدّ لضمان مصلحة ألمانيا. كذلك، وجدتُ فواتير من فنادق كان يقيم فيها هتلر مع المقربين منه قبل عام 1933. كانوا ينفقون 800 رايخ مارك لتمضية أربعة أيام في كايسرهوف في برلين مثلاً، أي ما يساوي حوالى 3500 يورو (4700 دولار).عن تخصيص فصل كامل عن علاقات هتلر بالنساء. وأهمية تناول حياة الدكتاتور الخاصة قال أولريش:أظن أن هذا الجانب يجب ألا يُحذف من أي سيرة ذاتية. في ما يخص هتلر، تسود فكرة عامة مفادها أنه لم يرسم خطاً فاصلاً بين حياته العامة والخاصة، بل إنه خلط بين المجالين بطريقة غريبة. كان هذا الأمر واضحاً في بيرغوف تحديداً حيث كانت المساحات الخاصة ومساحات العمل مختلطة.ما رأيك بالنظرية القائلة إن هتلر كان ينجذب إلى الرجال؟قيل أيضاً إن هتلر كانت لديه خصية واحدة، ما جعله يتردد في خلع ملابسه أمام النساء. لكن يمكن أن ننسى هذه الفرضيات كلها. نجح هتلر في إخفاء معلومات كثيرة في هذا المجال ولا نعلم الكثير عن الموضوع. لكني مقتنع بأن علاقته كانت وثيقة أكثر مما كنا نظن مع حبيبته الأخيرة إيفا براون التي كانت مساعِدة مصوِّر في ميونيخ.يعبّر كيرشو عن نظرية مفادها أن هتلر كان يشعر بالرضى التام عند تهييج الحشود.لا أظن ذلك. لطالما طرح هتلر نفسه كرجل يرفض جميع مظاهر السعادة الشخصية خدمةً لشعبه. ما من أدلة جازمة على ذلك، لكني أظن أنه خاض علاقة حب طبيعية جداً مع إيفا براون وراء ستار التكتم.من دون هتلر، ما كانت لتظهر نزعة {الاشتراكية القومية}. لكن من دون الطاقات التي ساعدته على شق طريقه، ما كان لهتلر أي وجود. أين كان يمكن تفريغ تلك القوى التدميرية لولا وجود هذه الشخصية المحورية؟كانت لتجد منفذاً مختلفاً. كان يمكن أن ينشأ نظام استبدادي يديره الجيش. أثبت أشخاص من أمثال المستشارَين شلايشر وبابين ما يستطيعون فعله غداة انقلاب عام 1932 في بروسيا، مع طرد موظفي الخدمة المدنية المؤيدين للجمهورية وتطهير النظام. كان يمكن تطبيق قوانين معادية لليهود من دون هتلر أيضاً. لكن ما كانت محرقة اليهود (هذه النسخة الأخيرة والمتطرفة من الرؤية السياسية المثالية لمجتمع متجانس من الناحية العرقية) لتحصل مطلقاً. لا يمكن تصورها من دون هتلر. ارتفع عدد الألمان الذين دعموا تلك النزعة المتطرفة، لكن كان هتلر هو من يديرها.