من الذاكرة: الرهان
عملية الإعدام تقرر إجراؤها عند "العين"، فهناك يتجمع الناس في العادة، وهناك إذا فقد الخاضع لهذه التجربة السيطرة على معدته وأفرغ محتواها من الأعلى والأسفل بالإمكان تنظيفه بسهولة، وهناك إذا ارتفعت روحه إلى بارئها وغادر إلى الحياة الأخرى بالإمكان دفنه في "الجبَّانة" المجاورة التي التهمت أجيالاً متلاحقة ولاتزال جشعة ولم تشبع وتقول: "هل من مزيد؟".ساقه الجلاد من أمام الدُّكانة الوحيدة، أو في الحقيقة الدكانة الثانية لأن هناك "دكانة رفعة" التي مثلها مثل هذه الدكانة لا تبيع إلا الفتلة والمروْحة وشربة ملح الإنكليز والخروع والحلاوة والراحة والقطران، ساقه الجلاد في اتجاه عين العالوك الشهيرة بينما سار خلفهما الفضوليون الذين أرادوا الاستمتاع بمشهد عملية الإعدام عن قرب، ووقف الذين كانوا أكثر وقاراً على المرتفع الذي أمام الدكانة ليشهدوا بدورهم عملية نحر رجل في وضح النهار عن بعد.
وخلف هؤلاء سار حامل "سطلية" الحلاوة التي كان يضمها إلى صدره وبيده الأخرى كيس فيه أكثر من ثلاثين قنارة من البصل الحار الأزرق النفاث الرائحة، وما إن وصلت المسيرة إلى باحة العين حيث تنتشر "الجوابي" المخصصة كل واحدة منها لسقي أغنام وسائمة إحدى العائلات حتى "شلح" أكبر "العشماويين" عباءته وفردها على الأرض المبللة، إلى جانب جابية "أبو محمد" الرجل الوقور الممشوق القوام الذي تدل هيئته على أنه أكثر رجال القرية أرستقراطية وسلالة محتد، ووضع "سطلية" الحلاوة فوق العباءة وإلى جانبها كومة "قنانير" البصل الحادة الزرقاء. هجم المحكوم عليه بالإعدام على "سطلية" الحلاوة كضبع جائع يهاجم جيفة، وألقم بسرعة هائلة فمه الفاغر وأشداقه المتدلية، التي يتقاطر منها اللعاب، زهاء نصف رطل من حلاوة ماركة "الكسيح" التي عنوانها صورة أسد أهتم فاغراً فاه ثم أتبعها بأخرى... ثم واحدة ثالثة... وعندما شعر ببداية غثيان بدأ يصعد من فم معدته إلى حلقه تناول أكبر قنارة بصل وصلت إليها يده و"دغشها" مرة واحدة وزبدها الحار اللاذع يخرج من زاويتي فمه المخضب ببقايا الحلاوة البيضاء، وكأنه كان "يلهم" طحيناً ولا يأكل حلاوة!أوقفت رائحة قنارة البصل الزرقاء وطعمها اللاذع موجة الغثيان، ثم ولأن ضغط الجمهور المتفرج الذي جاء ليشهد هذه المسرحية القاتلة تضاعف لدفعه إلى مواصلة التهام باقي ما تبقى في "سطلية" الحلاوة، فقد تناول "دُرْبيَّة" من الحلاوة والتهمها، وكان بعد كل "دُرْبيَّة" تمتد يده إلى كومة قنار البصل الأزرق ليلتقط واحدة أخرى ويدغشها ثم يواصل التهام الحلاوة، وهكذا إلى أن انهار وفقد وعيه تماماً، وأخذ يقذف ما في جوفه من الأعلى ومن الأسفل متبعاً كل قذفة باعتصار شديد وبأصوات صاخبة سمعها الجمع الذي كان كلُّ واحد منهم يقف على رؤوس أصابع قدميه ليرى ما يجري في باحة العين ويتابع المشهد باستمتاع شديد.لم يعد المسكين يعرف ما حوله وغاب عن الوعي تماماً، وغرق بالقيء الذي كانت تقذفه معدته من الفتحة العليا ومن الفتحة السفلى، وأخذ بعض الحضور يترحمون عليه، وأشار بعضهم بالإسراع بحفر قبر له في المقبرة الدارسة المجاورة، بينما بادر آخرون إلى انتشال عشرات الدلاء من الماء وصبِّها فوق جسمه الغارق بالقيء الذي كانت معدته تقذفه من الأعلى ومن الأسفل. لقد استغرقت عملية الإنقاذ أكثر من ساعتين، ولقد التقط في النهاية أنفاسه واسترد شيئاً من وعيه، وطلب أن ينقل إلى بيته المجاور لـ"الدكانة" ثم صعد متوكئاً على اثنين من أقاربه، وعندما وصل إلى جانب باب الدكانة خاطبه صاحبها قائلاً: "لقد خسرت الرهان. إنك لم تأكل كل ما في السطلية من حلاوة". ثم صمت قليلاً وأردف: "في كل الأحوال إن موسم البيادر قادم، وسوف تدفع لي علبة من القمح". وأضاف أيضاً: "اللي أوله شرط آخره سلامة، ومن أراد أن يأكل حلاوة إما أن يدفع ثمنها سلفاً وإلا فإن نهايته ستكون هذه النهاية!".