من عجائب ما يجري في هذا العالم العجيب أن بعض الذين يتصدرون موجة الاضطرابات الحالية المناهضة للإسلامي المتنور رجب طيب أردوغان هم خليط من "التروتسكيين" و"الماويين"، وبالطبع من المنتمين إلى بعض الحركات القومية المتمسكة بتراث ونمط حكم مصطفى كمال (أتاتورك) والمناوئة للديمقراطية وحقوق حكم الأقليات، ومن بين هذه الأقليات الأكراد والطائفة النصيرية التي لا علاقة لها إطلاقاً بـ"علويي" تركيا، والتي كان الفرنسيون في مرحلة استعمارهم لسورية قد أطلقوا عليها هذا الاسم الحالي "العلويون"، تمهيداً لإقامة دولة علوية تضم بالإضافة إلى الجزء الأكبر من الساحل السوري وجبال "النصيريين" لواء الإسكندرون، الذي ألحق بالدولة التركية بموجب صفقة قذرة مع البريطانيين في التاسع والعشرين من أكتوبر عام 1939.

Ad

والاعتقاد السائد أن "التروتسكية"، نسبة إلى ليون تروتسكي واسمه الحقيقي "ليف دايفيدو فيتش برونشتاين" الذي اغتيل في المكسيك عام 1940 على يد أحد عملاء المخابرات الستالينية، لم يعد لها وجود، وآخر نشاط شعبي لها كان تلك الثورة الطلابية التي أشعلت باريس عام 1968 وامتدت إلى عدد من الدول الأوروبية، ثم تحولت إلى ثورة جنسية إباحية استمرت سنوات طويلة.

أما "الماوية"، على حد علمنا، فإنها انتهت منذ أصبح ذلك المصلح العظيم دينغ سياو بينغ قائداً فكرياً وسياسياً واجتماعياً للصين التي حققت كل هذه النهضة العظيمة بعد القضاء على ما كان يسمى "عصابة الأربعة" والسير على طريق منهجها الجديد الذي لاتزال تسير عليه.

"سبحان من يحيي العظام وهي رميم"، وهنا فإنَّ ما يستدعي طرح ألف سؤال وسؤال هو: كيف يا ترى "الْتمَّ التعيس على خايب الرَّجا" فتشاركت "التروتسكية" التي لم يعد يسمع بها أحدٌ و"الماوية" التي اختفت بصورة نهائية حتى في الصين نفسها في شغب بعض الحركات القومية التركية، التي تدعي أنها "أتاتوركية" نسبة إلى مصطفى كمال (أتاتورك)، على هذه التجربة الديمقراطية العظيمة التي يقودها رجب طيب أردوغان، والتي حققت خلال سنوات قليلة كل هذا النهوض الاقتصادي المذهل حقاً، وقدَّمت إلى الشعب التركي ولنا، في هذه المنطقة التي تشهد نهوضاً أصولياً غير مسبوق، إسلاماً جميلاً باسماً، على النقيض من "الإسلام" العابس المُقطِّب الجبين الذي قدمه إلينا "الإخوان المسلمون" منذ خمسة وثمانين عاماً حتى الآن دون أي تبديل أو مراجعة.

إن ما جرى في تركيا في الأسابيع الأخيرة ولايزال يجري ليس انتفاضة ولا ثورة على المسيرة الديمقراطية التي يقودها رجب طيب أردوغان وحزبه حزب العدالة والتنمية بل مجرد شغب شوارع تقوده "حثالات"، نعم "حثالات" هامشية كانت قد سقطت تاريخياً منذ فترة بعيدة وانضم إليها الذين لا يؤمنون بالديمقراطية والذين امتهنوا الشدَّ إلى الخلف. وهذا ما قصده عبدالله أوجلان، الذي نسب إليه في هذا المجال كلاماً لم يقله، عندما قال مخاطباً المتظاهرين: "يجب التنبه لأي استغلالٍ من قبل الحركات القومية التركية" وإنه: "لا يجوز لأي شخص أن يكون موضع استغلال من قبل الأوساط القومية الانقلابية"!

وهنا فإن المضحك المبكي حقاً هو أن أبواق نظام بشار الأسد، هذا النظام القمعي الدكتاتوري والطائفي البائس، قد بادروا فور حصول ما حصل في تركيا إلى تبني النصائح "الكاريكاتورية" التي سارع وزير إعلام هذا النظام إلى إسدائها لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، والقول إن عليه ألا يستخدم العنف ضد شعبه، وإن عليه أن يستجيب لمطالب هذا الشعب. وهذا في حقيقة الأمر لا يمكن تشبيهه إلا بذلك المثل القائل: "كالعائبة التي تحاضر في العفة وضرورة الحفاظ على شرف العرض وصيانته".

وكل هذا والمفترض أنه واضح ومعروف أن ما يجري في تركيا هو شغب ضد الديمقراطية وضد الانفتاح والاعتدال والإنجازات الاقتصادية الهائلة، أما ما يجري في سورية فإنه انتفاضة شعب عظيم ضد حكم عائلي طائفي مقيت، أورثه الوالد لـ"الولد" بعد مسيرة ثلاثين عاماً كان عنوانها زنازين المزة، التي أكلت أجساد حتى كبار القادة البعثيين، والاغتيالات التي لاحقت صلاح البيطار ومحمد عمران وغيرهما إلى باريس وطرابلس اللبنانية، وفي كل مكان وكانت نهايتها ارتكاب كل هذه المجازر البربرية التي لاتزال ترتكب، وتسليم مقاليد أمور سورية إلى الجنرال الإيراني قاسم سليماني وإلى سيرغي لافروف الذي حلَّ محل الرئيس والرئاسة ووزير الخارجية ووزارته.