تحوَّلت بيروت، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، من مدينة أفقية إلى مدينة ذات منحىً عمودي واضح، وغالبية المباني الشاهقة تشيّد على أنقاض المباني التراثية والقديمة وتغيّر معالم المدينة وتزيل ذاكرتها وماضيها، تضيف وجهاً إلى وجوهها الكثيرة، وتتماثل مع دبي في عمارتها الجديدة.
الاعتراض على بيروت العمودية والمتمعدنة بهيكلِها الإنشائيِّ المكوّن من الحديد الصلب، وبغلافها الزجاجي الملوَّن المعتم واللامع والمشع ليلاً بالأنوار، يبدو ثقافياً في الدرجة الأولى من خلال بعض المقالات الصحافية والتقارير التلفزيونية، وقلّة من السياسيين يهتمون بهذا الأمر. النائب وليد جنبلاط مثلاً، يقول في إطلالة تلفزيونية {بيروت صارت مثل دبي}، يتحسّر على مصير المباني التراثية ويطالب بلدية بيروت بشراء ما تبقى من هذه الأبنية لحمايتها.كان عدد المباني التراثية يتجاوز 1500 مبنى في منتصف التسعينيات، اليوم هبط عددها، ربما، إلى أقل من ثلث هذا الرقم. المقاولون يتصرفون كأنهم وحوش ضارية تتسابق على فريسة، ما إن يسمع أحدهم بعقار قديم للبيع حتى يشتريه، ويسارع قبل طلوع الفجر إلى المجيء بالرافعات والجرافات لهدمه وبدء التحضير لتشيّيد ناطحة سحاب مكانه.باتت المباني التراثية في بيروت شبه نادرة أو في طريقها إلى الانقراض، وما تبقّى منها {اختنق} في عتمة المباني الضخمة التي تفرض نفسها ومشاعرها على محيطها، كأن كل برج هو مدينة بحد ذاتها. قرب مبنى بركات الأصفر التراثي في منطقة السوديكو، والذي ترممه بلدية بيروت كمتحف لذاكرة المدينة، يتم تشييد برج شاهق اسمه {سما بيروت} سيكون الأعلى في العاصمة اللبنانية، مقترباً من الـ 200 متر ومتضمناً أكثر من 50 طبقة. يتحدث أصحابه عنه باعتباره {أيقونة المدينة”، ويشكل، بالنسبة إليهم، تحقيقاً للذات. ذلك البرج يبدو في صورته الافتراضية كأنه أقرب إلى المتخيل، أو كأن من سيعيش فيه سيتخلَّى عن الأرض الصلبة التي ولد عليها!برج {شارع اللصوص سما بيروت} مثله مثل الأبراج كافة التي تفرض نفسها بقوة على محيطها، وفي المتخيِّل لدى كل واحد منا، وعلى المدينة حيث تبسط سيطرتها. قبل أن تشيّد أساسات البرج، بدأ حديث الناس عن ارتفاعه، كأن نكهته في أنه تخطى معظم المباني وصار نموذجاً صارخاً يحتذى به عن التوجه الجديد للعمارة في بيروت، وما ستؤول إليه المدينة في المستقبل، فكتبت جمعية {مشاع} على الجدران: {لأنهم يريدون رؤية البحر لم نعد نرى السماء}.أصحاب العقارات في سباق نحو السماء! شارع الجميزة المصنَّف على أنه {ذو طابع تراثي} تخترقه الأبراج أيضاً، ولا يختلف الأمر في منطقة كليمنصو، حيث يبدو بعض المباني القديمة أشبه بزينة للمباني الضخمة.من كورنيش المنارة وصولاً إلى الرملة البيضاء، كأن المباني الضخمة نسخة واحدة. في التسعينيات، شهد لبنان {بناية الأحلام} التي غيّرت معالم محيط عين المريسة. وفي السنوات القليلة الماضية، صارت المباني كافة تتماثل مع بناية الأحلام في الضخامة، كأن جميع المباني كتلة صماء قاتمة بشعة لا تتميز بمواصفات هندسية من الخارج، غاية أصحابها رؤية البحر فحسب.ربما تعبّر المباني المطلة على البحر عن أزمة الصراع على الفضاءات المفتوحة في بيروت، فالعمارات الجديدة التي تطل على {حديقة الصنائع”، وبسبب ارتفاعها الشاهق، جعلت الحديقة كأنها مجرد {حوض زريعة”. وفي محيط ميدان سباق الخيل في المتحف تُشيَّد أبراج تغري كل من يعشق البيوت المطلة على مساحة خضراء.لم تعد المباني الضخمة تقتصر على مكان بعينه في بيروت والمناطق القريبة مثل سن الفيل والمنصورية والجديدة. في وسط الأشرفية، أو {الجبل الصغير} كما تسمى، يشيّد برج ضخم، يراه العابر في محيط بيروت من بعيد، برج يبدو كأنه يلامس السماء، وهو مثل مسلّة ضخمة على رأس الجبل الصغير. يمكن للجالس فيه أن يقبض بنظره على محاور بيروت من الجهات كافة، أو يجمع البحر والجبل في نظرة واحدة. سيكون البرج في موضعه مفتاحاً لتشييد أبراج أخرى، وفي ارتفاعه شيء من الغطرسة الفضائية.{بيروت ليست دبي}، اعتراض فيه شيء من المكابرة، إذا جاز التعبير، فدبي التي قيل إنها تقلق بيروت وهي {ضرتها} بالمعنى التنافسي والمجازي، استطاعت أن {تباشر تخضير الصحراء} بحسب الكاتب حازم صاغية، بينما عمل اللبنانيون على اختلافهم على تصحير الأخضر الذي طالما تباهوا به. وغدت بيروت أقرب إلى مدينة الفوضى تجمع في ثناياها الأبراج الساحرة والكهوف وبقايا الحنين.بيروت ليست دبي، ربما تشبهها ببعض الباطون، المحنة في بيروت لم تعد في الشكل، بل في أن هذه المدينة تعيش اللاستقرار واللادولة واللانظام واللاقانون... وهلم.
توابل - ثقافات
بيروت ليست دبي
18-10-2013