«شعراؤنا – صانعو مجد أرمينيا»... لـ جولي مراد

نشر في 19-06-2013 | 00:02
آخر تحديث 19-06-2013 | 00:02
ذاكرة روحيّة تليق بشعب يستحقّ الحياة

حين تُسلب الأرض تصير القافية وطناً. حين يقسو غاصب على تراب حبيب يفتح إنسانُ هذا التراب صدر الكلمة، يسكنها، يُلبس أولاده رحيق معناها، ويلوذ بأحرفها حُرّاً، لأنّ الكلمة لا تخضع لمحتل ولا يقطر سيف من دمها.
ليست المرة الأولى التي تحاول فيها الأديبة والباحثة جولي مراد أن تضيف الكثير من الفضّة إلى قمر الدهشة، غير أنّها في جديدها {شعراؤنا – صانعو مجد أرمينيا} أنزلَتْ ريشة نسر في محبرة شاهقة وكتبت بألم وجمال ناقلة على رؤوس أصابعها الزّبد الغريب من اللغة الأرمنية إلى اللغة العربية، داعية شعراء أرمينيا إلى الإقامة في لغة أحبّتهم وفتح أهلها الأبواب لأهلهم يوم أرهقت الجريمة سيوف أصحابها، ويوم كانت شمس الحقيقة شاهدة والشعب الأرمنيّ شهيداً.
كتاب {شعراؤنا – صانعو مجد أرمينيا} ذو حضور مهيب، وهو بجمال طباعته وأناقتها، وبفخامته وألوانه وصوره، يليق بأن يكون ذاكرة روحيّة للشعب الأرمنيّ، ومعرضاً لتحف لغويّة للقارئ العربيّ. ولا شكّ في أنّ الفضل في ذلك يعود إلى دار {المراد} التي اعتادت، في زمن قلّت جمالاته، أن تُكرم جمال المضمون بجمال الشكل، وتوزّع الرضى بين العين والقلب.

في الإهداء الموزّعة كلماته على شكل أرزة، أرادت جولي مراد أن تصبّ الروح الأرمنيّة في قالب لبناني فنجحت في الجمع بين شعبين وإن لم تكن لهما روح واحدة فإنّهما يحدّقان في اتّجاه واحد ناشدين الحرّية والجمال وكرامة الإنسان: {إلى كلّ من أضاء شمساً، أسبغ لوناً... زرع نجمة، فجّر الرعب في أوصال غزاة، حرث الفرح... ابتدع الحبور، خطّ حرفاً، حمل جروحه ومشى}.

وتأتي كلمة الناشر، الأستاذ ميشال مراد، لترسم تاريخ علاقته بالأرمن منذ إطلالته من نوافذ الطفولة التي لا يغلقها النسيان إلى يومنا، وهو يسمّي {شعراؤنا} كتاب حلم زار وجدانه لحظة قرأ {في جريدة {النهار} قصيدة الشاعر باروير سيفاك {إلى قومي}، ترجمتها جولي مراد}، وقد اقترح على المترجمة نقل قصائد لكبار الشعراء الأرمن إلى العربيّة. ويضيف الناشر أنّه استعان بالتراث الأرمني لاجئاً إلى الرسّامين الكبار لتحضر اللوحة بموازاة القصيدة، ولتأمين اللوحات ثمّ التواصل مع متحف أرمينيا الرسميّ.

أمّا كلمة رئيس جمهوريّة أرمينيا سيرج سركيسيان فعبّرت باختصار كثيف عن تقدير إصدار دار المراد الجديد وعن غبطة كثيرة به: {إنّ غبطتنا بهذا الانجاز تعادل عظمة أولئك الشعراء الذين نظموا بمشاعرهم المرهفة وتضحياتهم الجلّى أصدق صورة لوطنهم وشعبهم}...

وقد حرص الوزير ميشال إدّه في بحثه على إظهار قدرة الأرمن في أن يكونوا جزءاً أساسيّاً من النسيج اللبناني بما أتوه من إبداع وخلق وانتماء إلى الروح اللبنانيّة، ورأى أن الحقيقة {لا تحرّر الشعب الضحيّة وحسب من أسر رواسب الماضي ومآسيه وعذاباته، بل إنّها تحرّر الجلاّد والمستبدّ كذلك... وتؤهّل الطرفين الضحيّة والمستبدّ في الآن معاً للانصراف في بناء إنسانيّ}.

وفي كلمته تضامن الأديب أنطوان الدويهي مع الأرمن مبدعين وشعباً، وكتب بقلم يحترم الآخ الطالعة من خيمة جروح، مفضّلاً أن يكون سبستيانوس المجرّح الصّدر بالسهام لا جمال باشا السفّاح، إذا كان لا بدّ من خيار ثالث...

وتحت عنوان {جرح يولّد فجراً} كتبت جولي مراد وجع الجمال والانتماء. كتبت عن شعراء حوّلوها فانوساً سحريّاً ليطلعوا منه مردة يحملون على أكتافهم جبال أرمينيا وسهولها وأوديتها... يختصرون بقاماتهم وطناً عمره أطول من أعمار السيوف الكافرة.

هؤلاء الشعراء لم تجد مراد أمتع من الغوص على لؤلؤ محابرهم، وهي عارفة تماماً أن ترجمة القصيدة مجازفة لأن للغتها الأمّ أن تعطيها ما لا تستطيعه اللغة الأخرى، فلذلك قالت: {كيف لي أن أنقل بريق نجمة من أنجم تولع بنيازك السماء؟... كيف أخمّر العصير... كيف أسكب الأريج؟!... كيف أُري كثافة الشراب...}. بهذا الكلام تعلن مراد تهيّبها أمام دعوة الكلمة الشعريّة من لغة إلى لغة، وهذا التهيّب يثبت للمترجمة كفاءتها وإذا كانت ترجمة القصيدة شرّاً لا بدّ منه، فإنّ هذا الشرّ أتى خيراً لأنّ مراد ضمّت المفردات الأرمنيّة بمنتهى الحنان والكفاءة والأناقة وهي تدلّ معانيها على صدور الكلمات في اللغة العربيّة التي تعرفها مراد معرفة لغويّة وجماليّة ولها فيها تاريخ مكتوب بماء الدهشة على ورق الغار.

وجع شعب

وُفّقت جولي مراد في عبور الجسر من الأرمنيّة إلى العربيّة لأنّها تتبنّى وجع شعب من حقّه أن ينصفه التاريخ وأن تكرّمه الحياة كي لا يُظلم مرّتين. فالترجمة الناجحة لا يمكن لها أن تكون وليدة الكفاءة فقط إنّما هي، و{شعراؤنا} خير مثال، نشاط إبداعي ليس يثمر نجاحاً إن لم يكن ممتلئاً من الرغبة والنّزق.

وإذا كانت مراد لا تريد ثأراً، وهذا شأن كبار النفوس، فإنّها أرادت وبكل ما فيها من إرادة العقل والقلب، أن تشهد بعملها الجبّار هذا أنّ الشعراء لا يموتون، وكيف إذا تقدّمت أجسادهم المدمّاة على نصوصهم، أو بكلمة أخرى: كيف إذا كانت أجسادهم نصوصاً مضرّجة: {شعراء أحياء يرزقون... يضجّون... لا يموتون... ففي القبور المظلمة تشعّ أجساد تولّد النور}...

وبعد قراءة النماذج الشعريّة المنقولة إلى العربيّة يتّضح للقارئ أنّ الشعر الأرمني يمدّ عنقه من نافذة الكلاسيكيّة إلى حدائق الحداثة في وقت مبكّر، وهو شديد الالتصاق بالإنسان والأرض واللغة، وللعاطفة فيه حصّة كبيرة لا تصادرها الرمزيّة ولا يعطّلها الخيال:

 {إنّها تمطر... يا بنيّ

 الخريف مبلول..

 مبلول

كما أعين مسكينة

 مخدوعة بالحبّ مبلول}

 (فاهان تيكيان)

 

والطبيعة في قصيدة أرمينيا هي أكثر من مشهد، هي امتداد للذات الإنسانيّة ومرآة خصبة لتجلّياتها:

 {بحيرتي الواجمة

 إليّ هلمّي لنمسي صديقين حميمين

 فأعشق مثلك أنا

 اللوعة والانخطاف والسكون}

 (بيدروس توريان)

ومهما تعدّدت مواضيع الشعر الأرمني فإنّ الانتماء صفة ثابتة من صفاته، وكأنّ خلاّقي الأرمن قد عرفوا بالحدس وأنبأتهم محابرهم أيّ غيمة سوداء هي في طريقها إلى افتراس الحياة في صدور شعب لا يتّهم إلاّ بحبّه للحياة وتقديسه لكرامة الإنسان، وكم هو معبّر كلام الشاعر المتمرّد كيفورك إمين في هذا السياق:

 {أنا أرمني... قديم... قِدم أرارات

قدماي... لا تزالان رطبتين

 من مياه الطوفان}...

في {شعراؤنا – صانعو مجد أرمينيا} ساهمت جولي مراد في صناعة مجد القصيدة، واثبتت أنّ قلمها جسر عبور وساحة تلاقٍ بين أمّتين وما جمعه الشّعر لا يفرّقه النسيان.

برعاية رئيس جمهورية أرمينيا سيرج سركيسيان ممثلاً بشقيقه السفير فوق العادة ليفون سركيسيان وعدد كبير من رجال السياسة والاقتصاد والاعلام أطلقت دار المراد كتاب «شعراؤنا صانعو مجد أرمينيا» للمؤلفة جولي مراد في البافيون رويال البيال في بيروت خلال أمسية شعرية- موسيقية تميّزت بإطلالاتٍ لكبار أهل القلم والاعلام إضافة الى لحظاتٍ موسيقية مع رباعية «كوميداس» العالمية التي استُقدِمت خصيصاً من أرمينيا لإحياء المناسبة.

استهل السفير ليفون سركيسيان الأمسية بكلمة لرئيس أرمينيا باللغتين الارمنية والعربية تحدث فيها عن الأواصر الوطيدة التي تربط الحضارتين العربية والارمنية، مثنياً على ترجمة جولي مراد التي أرادت بعملها أن تشكل جسر تواصل بين الحضارات، خصوصاً أنّ كتاب «شعراؤنا» جاء ليعطي للعرب صورة عن الأرمن في أدبهم وتراثهم الفكري الأدبي والتشكيليّ.

وشكر مطران الأرمن الارثوذكس كيغام خاتشيريان للناشر رغبته في نقل الحضارة الارمنية فكراً وتراثاً الى العرب، مهنئاً الشعبين العربي والأرمني على صدور الكتاب. وتلت الأمسية قراءة الشاعر نديم محسن لقصيدتين، «ولادة فاهاكن» للشاعر موفسيس خوريناتسي و{الناي» لكاريكين بشكوتوريان. وقرأت باسمة بطولي «هراستان» للشاعر غيفونت أليشان، فيما قرأ الاعلامي جورج قرداحي قصيدة «حفنة رماد» لسيامنتو، وزاهي وهبي «موتي» لبيدروس توريان و{العيد» لهوفانِس شيراز. أما زياد عقيقي فقرأ «أسطورة الخضر» للشاعر بيبو سيمونيان وهو الشاعر الوحيد الذي ما زال حياً يرزق وورد في الكتاب. أما المؤلفة جولي مراد فقرأت قصيدة «أبي» لهوفانِس شيراز.

وشهدت الأمسية كذلك معمودية الكتاب بمشاركة المساهمين فيه وهو تقليد محبّب من التقاليد الارمنية يتمّ فيه مشح الكتاب بعصير الرمان احتفاءً بولادته ويعود التقليد بجذوره الى الايام التي كانت تقدّم فيها القرابين عربون وفاءٍ للآلهة أناهيد رمز الأمومة، ومع دخول المسيحية الى أرمينيا شرع الأدباء يقدمون مخطوطاتهم الى الأم العذراء مبتهلين بالدعاء طالبين البركة وهم يحملون شراب الرمان المعتّق، رمز «الأمة الارمنية» وتمشح أطراف الكتاب بالشراب وتبقى نسخته الأولى في المتحف رمزاً لحضارة تدوم. واختتمت الأمسية بكلمة للوزير السابق دميانوس قطار الذي تحدث عن تشابه التجربتين الأرمنية واللبنانية من حيث الصمود وإرادة البقاء والنجاح، رافضاً تعبير «الجالية الارمنية»، خصوصاً أن الارمن باتوا جزءاً من النسيج اللبناني، مفضلاً عليها تعبير «المجتمع الارمني»، مستشهداً بأمثلة عن المفكرين والادباء الأرمن والعالميين في مشارب مختلفة. وأثنى قطار على ترجمة جولي مراد للأشعار الأرمنية «لأنها بذلك قرّبت المسافات بين الشعوب وبنت بالكلمة جسوراً صلبة لا تقوى رياح البغض على هدمها».

back to top