يشتمل كتاب {الأمثال العامية في جبل عامل} على قسمين، القسم الأول بعنوان {حكايات وتعليقات على بعض الأمثال العاملية- ألوان من الحياة في جبل عامل في القرنين التاسع عشر والعشرين}. والقسم الثاني بعنوان {الأمثال العامية في جبل عامل}.

Ad

يتضمن القسم الأول مجموعة من الأمثال مع كل مثل منها «حكاية» بقلم المؤلف جعفر محسن الأمين، والحكاية لا تقتصر، كما يتبادر إلى ذهن القارئ، على تفسير المثل فحسب، وإنما تتضمن، فضلاً عن التفسير، أخباراً وتعليقات طريفة تعكس طبيعة الحياة في الجنوب اللبناني، خلال القرنين الماضيين في شتى جوانبها: الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والديني والخرافي. وذلك بأسلوب مباشر تغلب السخرية والفكاهة عليه.

ويحتوي القسم الثاني على عدد كبير من الأمثال العامية مرتبة على حروف الهجاء، من دون أي تعليق، أو تفسير من المؤلف، وإنما مثلما ينطق بها السكان المحليون. وقد أثر محقق الكتاب في مراجعته للمخطوطة، الإبقاء على صيغة الأمثال كما دونها الكاتب بعد التقاطها من أفواه قائليها، كذلك الإبقاء على الألفاظ والعبارات الجنسية مثلما وردت من دون تعديل. أما ديوان جعفر الأمين، فله خصوصية أن صاحبه كان ينظم الشعر الذي يتسم بالطرافة والفكاهة والدعابة في المعنى الأدبي. في المقابل، كتب من يقرأ نصه الرائد {سيرة حياة وذكريات}، يفاجئ بمضمونه الذي يكشف المستور عن العنصرية التي عانتها والدته الإفريقية، ويحكي سيرة طفولته وسيرة أمه كما يعرفها وكيف عاشت القسوة والهوان والذل والتشرد من زوجة والده العلامة محسن الأمين.

يقول جعفر الأمين: {والدتي إفريقية سوداء، سرقها مسلم مع من سرق من أطفال بين إناث وذكور من إفريقيا الشرقية}. وهو بالتالي يزيح الستار عن كؤوس غصص تجرّعتها الأم في البدء، فهي إذ تم جلبها كخادمة ولا تزال في الرابعة أو الخامسة عشرة من سنها، واشتراها والدي الشاعر أو قدمت له هدية، في وقت كان يسكن وحيداً في بلدته شقرا، وعائلته في دمشق، وبإزاء هذا استأجر لها بيتاً وتزوّجها وعندما عاد إلى دمشق (حيث عائلته) تركها في شقرا وهي حامل بالسيد جعفر وعندما وضعت طفلها أرسل أحدهم يخبر السيد محسن بالمولود الجديد ويطلب منه الاسم الذي يريده للطفل، فأتاه الجواب بأن يسموه حسن وهكذا كان. وبقي على هذا الاسم بضعة أشهر، وحين أنجبت خالته (أو زوجة أبيه)، طفلاً استنسبت أن تسميه إلا بـ}حسن} نكاية بوالدته فسقط عنه الاسم ودُعي بغيره.

صرخة

جعفر الأمين الذي عاش مآسي الحرب العالمية الأولى، كم يبدو حزيناً على أمه فهو يكتب ما يشبه الصرخة عنها، ويقول: «كم هي حرقة وحسرة أن يفرق بين أم وولدها وهي التي ليست لها في هذه الدنيا الواسعة إلا هذا الطفل الضعيف». المرعب أن جعفر أُبعد عن والدته التي طردت على ما يبدو، لتعيش في الخفاء في دمشق، وفي أوقات نادرة كان يلتقيها، لكن حين انتقل إلى شقرا مع والده وأخواته وبقيت أمه في دمشق، لم يعد يراها. بقي طيفها يأتي مع أحد أقاربه الذي طالما نقل له أخبارها، إلا أن جاء الخبر الأخير الذي يعلن وفاتها من دون اهتمام من الأقارب. سيرة فيها من المرارة ما يكفي وتعكس واقع العنصرية الاجتماعية التي تنخر عقول البعض.

ورث جعفر الأمين عن أمه خصائص سكان إفريقيا الشرقية، البشرة السمراء والشعر الأجعد، وهو نشأ محباً للأدب منطلقاً إلى الإحاطة بثقافات عصره حيث دأب على التحرك في مجالس الأدب التي زخرت بها البقعة العاملية (جنوب لبنان)، وتلقى علومه الأولى في بلدة شقرا الجنوبية. انتقل إلى دمشق ليتابع دراسته في «المدرسة العلوية»، وعام 1927 قدم إلى النبطية محاولاً الدخول في السنة الخامسة الابتدائية، في المدرسة الرسمية التي كانت الأولى بين مدارس الجنوب الحكومية في ذلك الحين، إلا أنه لم يقدر على الصمود لعدم قدرته المادية من جهة، ومن جهة ثانية لأن أكثر الدروس كانت باللغة الفرنسية. تابع دراسته على نفسه بما في ذلك تحصيل اللغة الفرنسية التي ساعده على تعلمها بعض أصدقائه والتحق بدورة تعليمية في دار المعلمين، وعيِّن بعدها في عام 1930 معلماً في النبطية. وفي كفرصير في أواسط الثلاثينيات، نظم بواكير قصائده ثم انتقل إلى النبطية ليلتحق بعدها بمدرسة الدوير الرسمية، ومن ثم بسبب انتمائه إلى الحزب الشيوعي نقل تأديبياً مع عدد من رفاقه المعلمين إلى محافظة الشمال، ثم إلى بلدة شمسطار البقاعية.

اللافت في شعر جعفر الأمين غياب الأغراض التي زخرت بها دواوين الشعراء كالمدح والهجاء والغزل والرثاء. فالمدح وإن احتل منزلة رفيعة عند الشعراء لا يعدو كونه في نظر جعفر غرضاً يشين الشاعر، وإذا ترفع عن الهجاء المثير للضغينة والكراهية لم يتورع عن هجاء نفسه من دون أن يأبه بما تزينه النفس ذاتها. حتى إنه لُقّب بالحطيئة.

في الطبعة الجديدة من الكتابين، نقرأ المقالات التي كتبت عنهما، ويتبين من خلال الكتابين أن المبدع ليس بالضرورة أن يكون متمرساً على رأس منبر صحافي أو مدعياً الحداثة ليكون لكتابته معنى، فما يكتبه جعفر الأمين وعلى رغم أنه نابع من ثقافة جنوبية محلية ولكنه يشكل نواة لثقافة حقيقية خالية من الأقنعة والتوريات والادعاءات.