بفضل إدوارد سنودن، أصبحت أعرف الآن أن وكالة الأمن القومي في الولايات المتحدة تتجسس عليّ، فهي تستخدم "غوغل" و"فيسبوك" و"فيريزون"، وغير ذلك من شركات الاتصالات والإنترنت، في جمع كميات هائلة من المعلومات الرقمية، التي تتضمن بلا أدنى شك بيانات عن بريدي الإلكتروني، ومكالماتي على الهاتف المحمول، واستخدامي لبطاقة الائتمان.

Ad

وأنا لست مواطناً أميركيا، لذا فإن كل هذا قانوني تماماً. وحتى لو كنت مواطناً أميركيا فمن المحتمل أن تكون معلومات كثيرة عني اختلست بالفعل على أي حال، ولو أنها ربما لم تكن الهدف المباشر لعملية المراقبة.

تُرى هل ينبغي لي أن أغضب إزاء هذا التطفل على خصوصيتي؟ وهل وصلنا أخيراً إلى عالم "1984" الذي تحدث عنه جورج أورويل، ولكن بعد ثلاثة عقود من الزمان؟ وهل يراقبني الآن الأخ الأكبر؟

الحق أنني لا أشعر بالغضب، فأنا لا أبالي حقاً بناءً على ما أعرفه حتى الآن، فمن غير المرجح أن يكون شخص ما يقرأ بريدي الإلكتروني أو يتنصت على مكالماتي على سكايب. ذلك أن حجم المعلومات الرقمية التي تجمعها وكالة الأمن القومي من شأنه أن يجعل من هذا مهمة مستحيلة.

فبدلاً من ذلك، تستخرج برامج الكمبيوتر البيانات المتطابقة مع أنماط من الأنشطة المشبوهة التي يرجو محللو الاستخبارات أن تقودهم إلى إرهابيين، ولا تختلف هذه العملية كثيراً عن عمليات جمع البيانات وتحليلها التي تستخدمها شركات عديدة لتوجيه إعلاناتها إلينا بشكل أكثر فعالية، أو تلك التي تعطينا نتائج البحث الأقرب إلى ما نحتاج إليه على الإنترنت.

والمسألة هنا ليست ما هي المعلومات التي تجمعها الحكومات والشركات، ولكن ماذا تفعل بها، فمن المؤكد أنني سأستشيط غضباً إذا توافر لدي الدليل على أن حكومة الولايات المتحدة- على سبيل المثال- كانت تستخدم المعلومات الخاصة التي تختلسها لابتزاز ساسة أجانب لحملهم على خدمة مصالح الولايات المتحدة، أو إذا تم تسريب مثل هذه المعلومات إلى الصحف في محاولة لتشويه سمعة منتقدي سياسات الولايات المتحدة. وهذا من شأنه أن يشكل فضيحة حقيقية.

ولكن إذا لم يحدث شيء من هذا القبيل، وإذا كانت هناك ضمانات فعّالة لعدم حدوثه، فإن السؤال الذي يتبقى إذن هو ما إذا كانت هذه الجهود الهائلة في جمع المعلومات تحمينا حقاً من الإرهاب، وما إذا كنا نحصل على قيمة حقيقية في مقابل الأموال التي تنفق على مثل هذه الجهود. تزعم وكالة الأمن القومي أن مراقبة الاتصالات نجحت بالفعل في منع أكثر من خمسين هجمة إرهابية منذ عام 2001. وأنا لا أعرف كيف أقيم هذا الادعاء، أو ما إذا كان بوسعنا أن نمنع مثل هذه الهجمات بطرق أخرى.

والواقع أن تقييم مسألة القيمة في مقابل المال أكثر صعوبة، ففي عام 2010، نشرت صحيفة "واشنطن بوست" تقريراً رئيسياً بعنوان "أميركا بالغ السرية". فبعد تحقيقات استمرت عامين وشارك فيها أكثر من عشرة صحافيين، خلصت الصحيفة إلى أنه لا أحد يعرف كم تتكلف عمليات الاستخبارات الأميركية، أو حتى كم عدد الأشخاص الذين توظفهم أجهزة الاستخبارات الأميركية.

في ذلك الوقت ذكرت واشنطن بوست أن 854 ألف شخص يحملون تصريحات أمنية من فئة "بالغ السرية"، والآن تزعم بعض التقارير أن الرقم بلغ 1.4 مليون شخص. (وهذا العدد الهائل في حد ذاته كفيل بأن يجعل المرء يتساءل ما إذا كان استغلال البيانات الشخصية لأغراض الابتزاز أو غير ذلك من الأغراض الشخصية قد يصبح حتمياً).

أياً كان رأينا في برامج مراقبة وكالة الأمن القومي في حد ذاته، فإن الحكومة الأميركية بالغت بوضوح في ردة فعلها إزاء الكشف عن معلومات خاصة بها. فقد ألغت جواز سفر سنودن، وكتبت إلى الحكومات تطالبها برفض أي طلب لجوء قد يتقدم به. والأمر الأكثر إذهالاً على الإطلاق هو أن الولايات المتحدة كما يبدو كانت وراء الرفض الواضح من قِبَل فرنسا وإسبانيا وإيطاليا والبرتغال السماح لطائرة الرئيس البوليفي إيفو موراليس بدخول مجالها الجوي في طريقها إلى الديار من موسكو، بدعوى أن سنودن ربما كان على متنها. واضطر موراليس إلى الهبوط في فيتنام، واستشاط زعماء أميركا اللاتينية غضباً إزاء ما اعتبروه إهانة لكرامتهم.

يتعين على أنصار الديمقراطية أن يفكروا طويلاً وملياً قبل أن يحاكموا أشخاصاً مثل جوليان أسانغ، وبرادلي مانينغ، وسنودن. فإذا كنا نعتقد أن الديمقراطية شيء طيب، فيتعين علينا أن نصدق أن عامة الناس لابد أن يعرفوا أكبر قدر ممكن عن تصرفات حكوماتهم التي انتخبوها. والواقع أن سنودن قال إنه كشف عما كشف عنه لأن "الناس لابد أن تقرر ما إذا كانت مثل هذه البرامج والسياسات صحيحة أو خاطئة".

وهو محق في هذا، فكيف لأي نظام ديمقراطي أن يقرر ما إذا كان من الواجب أن يتم إنشاء برامج مراقبة حكومة من ذلك النوع الذي تديره وكالة الأمن القومي إذا لم يكن لديه أي فكرة عن وجود مثل هذه البرامج؟ الواقع أن تسريبات سنودن كشفت أيضاً أن مدير الاستخبارات الوطنية جيمس كلابر ضلل الكونغرس الأميركي حول ممارسات المراقبة التي تقوم بها وكالة الأمن القومي في شهادة أدلى بها في جلسة استماع عقدتها لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ في مارس.

عندما قامت "واشنطن بوست"، التي نشرت بجانب صحيفة "الغارديان" البريطانية المعلومات التي قدمها سنودن، بسؤال الأميركيين ما إذا كانوا يؤيدون أو يعارضون برامج جمع المعلومات التابعة لوكالة الأمن القومي، أجاب نحو 85% من الذين شملهم الاستطلاع بأنهم يؤيدونها. ورغم هذا فإن نفس الاستطلاع وجد أيضاً أن 43% فقط منهم أيدوا محاكمة سنودن بتهمة الكشف عن البرنامج، في حين عارضها 48%.

كما أشار الاستطلاع إلى تأييد 65% لجلسات الاستماع العامة في الكونغرس الأميركي بشأن برامج مراقبة وكالة الأمن القومي. وإذا حدث هذا، فسنصبح جميعاً أفضل اطلاعاً بفضل ما كشف عنه سنودن من أسرار.

* بيتر سنغر | Peter Singer ، أستاذ أخلاق الطب الحيوي في جامعة برينستون، وأستاذ فخري بجامعة ملبورن، ومن بين مؤلفاته كتب عديدة مثل "أخلاق عملية"، و"عالم واحد"، و"الحياة التي يمكنك إنقاذها".

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»