ندى السريحي في «نون تتكلّم»... نصوص قصيرة للإبحار الطويل
في جديدها {نون تتكلّم}، تكتفي ندى السريحي بقليل من اللغة لكثير من البوح، وتخوض تجربة موفّقة وإن كان ثمّة تفاوت ملحوظ بين نصّ وآخر. واللافت أنّها أطلقت على موادّ الكتاب تسمية {نصوص}، ما يعني أنّها لا تنسب ما كتبت إلى الشعر الحديث وخيراً فعلت، لأنّ النثر الفنّي الأنيق لا يقلّ شأناً عن الشّعر الذي يكتبه شاعر شبعان من حليب أمّه موهبة.
قد يضيع الوهن أو يتوارى الضعف في النصّ الطويل باعتبار أنّ جملة تنقذ أخرى، وصورة تنجد صورة، أمّا تجربة النصّ القصير فقد تكون الأصعب لأنّها تدخل دائرة المجازفة فإمّا أن يكون النصّ ذا حياة تجتاز حياة صاحبه وإمّا أن يُولد جثّة لغويّة.من بداية الكلام تبدو ندى السريحي في جديدها {نون تتكلم} كائناً يعيش على خبز العاطفة ومائها: {لم أجد وسادتي، وجدتُ عوضاً عنها ملاحظة: {قرّرت أن أرتاح قليلاً من رأسك الثقيلة، أرقاً هنيئاً}، حتى أشيائي تتواطأ معك}. فها هي المسكونة بالحبّ تضع رأسها مساءً على جُملة تنضح بالأرق كبديل من الوسادة، وتلاحظ أنّ كلّ أشيائها يستعملها الحبّ ضدّها، ويصادرها لصالح مَن تحبّ لتغدو مالكة الدنيا بأسرها بينما هي تحتاج إلى مَن يعقد معاهدة صلح بينها وبين وسادتها الخائنة أجمل خيانة. وإذا قرّر أسير قفص المشاعر الهروب نحو جزيرة لا يصل إليها شراع الحبّ فإنّ قدميه تخونانه أيضاً وتسيران به من حيث لا يدري إلى قفص أكبر، وكأنّ للأحاسيس سلطاناً بعيداً من تاج العقل وصولجانه، وعليه، فإنّ الهارب من قلبه سيمشي ويمشي ويمشي ليصل في النهاية إلى جغرافية حميمة، لن يطول الوقت ليكتشف أن هذه الجغرافية ليست خارج قفصه الصدري: {أكثر أنواع الهروب فشلاً الهروب من المشاعر، كلّ خطوة في هذا الاتجاه تعْدل خطوتين في الاتجاه المعاكس، اتبع مشاعرك مسرعاً حتّى تتخطّاها}. الجملة الأخيرة في هذا النصّ تعطّله، لأنّها تتعارض مع السياق، وليت الكاتبة اقتصدت وألغتها، لأنّ خطوة الهارب، كما تقول، تعدل اثنتين في الاتجاه المعاكس، سواء إن أسرع وإن لم يسرع.
قراءة المشاعرتسعى السريحي إلى قراءة المشاعر الصعبة، باعتبار أنّ ما نشعر به يبقى مكتنَفاً بالضباب مهما بلغ من وضوحه، وتقف عند باب المسامحة والغفران لتقول: {أن تسامح لا يعني أن تنسى، بل أن تتذكّر دون أن تمتعض}. وهي بهذا الإعلان الجميل تعطي المسامحة رداء النّبل وما تحتاج إليه من بياض إنسانيّ، لكنّها في الوقت نفسه تعطي الذاكرة حقّها، إذ إنّ الإنسان لا جذور له في نفسه إن أطلق النار على ذاكرته، والتذكّر بعد المسامحة شكل من أشكال تمسُّك الإنسان بكلّ لحظة عاشها وملأها بما يريد عن سابق تصوّر وتصميم، إلاّ أنّ هذا التذكّر بعد الصّفح يجب أن يكون بلا ألم كي لا يفسد الألم جمال الصّفح.وعلى ضفاف تأمّلاتها تصطاد السريحي الفقر بشبكة سوداء: {الفقر... لون الموت الأكثر قتامة}. وجمال هذا الكلام البالغ الاختصار والوجع أنّه لا يمدح الفقر، وبالتالي الفقراء، وينزع عن كتفيه عباءة العزاء، ولا يراه طريقاً إلى السماء، إنّما ينظر إليه بواقعيّة مُرّة، والواقعيّة هي الأصدق انتماءً إلى الحقيقة. نعم، إنّ الفقير ميت على قيد الحياة أو حيّ على قيد الموت لأنّ عينيه تجوّعان كلّ ما فيه بينما يداه لا تستطيعان أن تُشبعاه إلاّ جوعاً. فهل الأحلام المعجونة بالمرارة تكفي وحدها لتجعل الإنسان منتسباً إلى الحياة بالمعنى الوجوديّ؟! وفي طريقها إلى كلمتها ذات النّسغ عاجت السريحي على ديار حَمَلة الأقلام، ولم تخبّئ فضيحة الكتابة عندنا، ودلّت برمزيّتها على الأقلام التي تكتب فراغها فقط وتحترف الكتابة لشهيّة تنقصها الموهبة: {بعض الأوراق بور... لا يُنبت الحبر منها كلمات}. وكلّنا نعلم أنّ الكنوز في الأوراق البيضاء مرصودة على قلم موهوب أعطته السماء القدرة على فضّ بكارة البياض بهدف إنجاب كائنات لغويّة يتبنّاها الجمال ليقترب الإنسان من بهاء إنسانيّته الذي يمجّد الله خلقاً وإبداعاً.واقعيةمن نصّ إلى آخر تتّضح واقعيّة السريحي التي لا تؤثّر سلباً على شراع خيالها ومزاجها الفنّي وكيفيّة وصولها إلى جملتها الخاصّة، وفي هذا السياق الواقعي تنجو الكاتبة من صدمة النهاية المؤلمة شرط أن تكون البداية آخذة حصّتها من الفرح: {إذا كانت البدايات جميلة، فعدل أن تكون النهايات على غير ذلك}. إنّه العدل المؤذي وإن باركه الواقع وكرّسته الحقيقة، لأنّه يوحي بأنّ النهايات السعيدة غير موجودة، فالبادئون يمسكون قلوبهم بأيديهم لأن عيونهم تحاول أن تقبض بنظراتها على النهاية، ولأنّ البداية السعيدة لا حلم لها إلاّ الوصول إلى النهاية السعيدة، ولأنّ البداية يبقى فرحها ناقصاً خشية النهاية...على امتداد نصوص نون السريحي المتكلّمة إشكاليّات تحرّض العقل على شهر علامات استفهامه الكثيرة، وقد يوافق القارئ على ما يقوله النصّ وقد لا يوافق إلاّ أنّ الإشكاليّة تأخذه إلى مكان فكريّ ما، وتضعه في مواجهة لذيذة مع ذاته، وتوقظ فيه رغبة في الإبحار نحو حقيقة الإنسان التي يسطو عليها اليومي والعادي والمتكرّر فنعيشها من دون أن نعرفها ونمرّ بها من دون أن نلقي عليها السلام.تنحاز السريحي إلى نشوة {أوّل مرّة}، وترى البداية هي الحقيقة الوحيدة وما يلي البداية ليس سوى تكرار، فكأنّ القبلة الأولى هي القبلة وما يعقبها من القبل ليس سوى محاولات لاسترجاع فرح أوّل لا يتكرّر: {الموعد الأوّل... العنوان الرئيسي، كلّ المواعيد بعده جُمل متشابهات}. فهل صحيح أنّنا نعيش لنكرّر ما جعلَنا معلَّبات فرح في لقائنا الأوّل معه أو به؟! مسألة فيها نظر، لأنّنا طالما طلبنا الحياة لنقلّد أنفسنا في بعض المواقف التي وإن أعيدت آلاف المرّات لن يكون لها ألق المرّة الأولى. ولا تنسى السريحي بين بضعة نصوص وبضعة أخرى أن تعود إلى الحبّ وتصافحه سريعاً: {كلّ ابتسامة أطلقها في غير وقتها صنع يدك}. هكذا ينقذ الحبّ أهله بأعاجيبه الصغيرة المعبّرة. فكم هو جميل أن يعطينا من نحبّ الابتسامة حين يكون، على سبيل المثال، الوقت وقت بكاء أو أرق أو ندم أو يأس... وتعود صاحبة النون المتكلّمة من الحبّ إلى موانئ أخرى، وتحاول لعبة الجناس: {أحلامنا، أحلى منّا} و}أمنياتنا، أمّ نيّاتنا}، و}قناعات، قناع آت}... إلاّ أنّها متحرّرةً من أسر الجناس كانت أكثر توفيقاً، لأنّ التجنيس صادر المساحة الحرّة للتعبير وقاد مياه اللغة إلى الطواحين التي يريدها هو، فالمناخ الذي نسجته السريحي لا يمتّ إلى التركيب اللغوي بصلة ولا يريد من اللغة أن تكون دمية، إنّما هو مناخ يحترم ألم الفكرة ويؤمّن لها الرداء اللغوي الذي لا يعدّل في اتجاهاتها ولا يمنعها من أن تقول نفسها بحريّة كاملة...ندى السريحي في {نون تتكلّم} جعلت نون نداها تجترح البوح الجميل، وأثبتت أنّها تحمل قلماً يحرّر الورقة البيضاء من بوارها ويأتمن بياضها على حديقة مباركة.