من الذاكرة: Good Hitler

نشر في 08-08-2013
آخر تحديث 08-08-2013 | 00:01
 صالح القلاب لم أكن قد قرأت بعد كتاب "كفاحي" الشهير، الذي غدا "إنجيل" النازيين المقدس، إلا أنني وككل أبناء جيلي الذين جَّرحت قلوبهم وأوجعت أكبادهم نكبة فلسطين كنت معجباً بـ"أدولف هتلر" ليس لأن عشيقته إيفابراون أثبتت إخلاصها له بالإقدام على الانتحار قبل أن ينتحر هو ولكن لأنه أرسل اليهود، الذين شرَّد من نجا منهم الشعب الفسطيني واحتلوا أرضه، إلى المحارق وأفران الغاز والمذابح الجماعية.

لقد اغتالت نكبة فلسطين ببشاعتها وظلمها ودمويتها جيلاً بأكمله، هو الجيل الذي أنتمي إليه ولهذا فإنه يبدو غريباً ومستغرباً عندما نطل على هذا الجيل بعد كل هذه السنوات التي لن أذكر عددها فنجد أن طفلاً كان يبكي لرؤية عصفور صغير تتناهشه القطط يعتبر "هتلر" بدمويته وعنفه وبشاعته، مظهراً ومخبراً، بطله المفضل... إنها قضية فلسطين... وإنه ألم النكبة الفلسطينية.

المهم كنت ذات يوم من أيام خريف أحد أعوام آخر عقد خمسينيات القرن الماضي قد تسلمت "راتبي" الشهري وخوفاً من أن تمتد إليه الأصابع الرشيقة في لحظة غفلة مني ولأن الحكمة الخالدة تقول: "من مأمنه يُؤتى الحذر" فقد بادرت إلى إخفائه بعد أن صررته بخرقة استحسنتها من سروال داخلي قديم في قعر الصندوق الخشبي الذي أضع فيه ملابسي وغياراتي الداخلية وحذائي الاحتياطي وبادرت هذه المرة ككل مرة في نهاية كل شهر إلى إغلاق قفل هذا الصندوق بحذر وشددته بعد الإغلاق بقوة وسحبته في كل الاتجاهات لأتأكد من عدم وجود ثغرة تتسلل منها الأصابع الرشيقة.

بعد أن تأكدت من إغلاق الصندوق الخشبي، الذي يشبه تابوتا كبيرا، ومن أنه لا توجد هناك أي ثغرة قد تتسلل منها "الأنامل" الرشيقة استلقيت على سريري العسكري الذي هو أحد نحو ثلاثين سريراً من النوع ذاته محشوة حشواً في ثكنة "النمور" بدأت أخطط لليوم التالي بعد أن حصلت على إجازة للتغيب عن الدراسة في ذلك اليوم "غداً سأفيق باكراً.. وسأحرص على ألا أنسى راتبي الذي مقداره ربع دينار عداً ونقداً والذي كانت المدرسة تصرفه لكل طالب من طلاب كلية الشهيد فيصل التابعة للجيش العربي والتي كان اسمها قبل عام 1958 المدرسة الإعدادية".

واصلت التخطيط، قبل أن أغرق في نوم عميق اعتدت عليه رغم أصوات الشخير وأشياء أخرى التي تتناهى إلى سريري العسكري من كل جانب... سأنتظر غداً أول باص ينطلق إلى جرش على الطريق العام الذي لا يبعد عن ثكنات "مدرستي إلا نحو ثلاثمئة متر... سأحاول أن أجلس في المقعد الأمامي خلف "الشُّفير" حتى لا يصيبني "الدُخان" كما في كل مرة... وعندما سأصل إلى جرش سأتجه مباشرة إلى مكتب "سعد الدين" في مبنى دائرة الصحة وسأدفع مما تبقى من راتبي عشرة قروش كرسم لاستخراج شهادة ولادة لشقيقي الذي يصغرني بعدة أعوام، لن أذكر عددها الآن، ليلتحق بالمدرسة في سن مبكرة ولنوفر عليه وعلينا السنوات المتبقية وصولاً إلى العمر القانوني، وبعد أن أحصل على الشهادة سأذهب إلى سوق المدينة لـ"أتبحبح" وسأقصد مطعماً كنت قد رأيته مرات عدة سابقاً لكنني لم أدخله وسأطلب صحناً من الحمص المدمَّس مع "القاورمة" اللذيذة الغارقة بالدهن، ثم بعد ذلك سأعود إلى عمان لأرسل لاحقاً بشهادة الولادة إلى قريتنا ليجري تسجيل شقيقي الأصغر في مدرستها.

لقد غرقت في نوم عميق رغم أمواج الشخير والنخير، والأشياء الأخرى التي لا أحب ذكرها، وأمضيت ليلتي أحلم بصحن الحمص المُدمَّس مع "القاورمة"، وفي الصباح بدأت يومي بما كنت خططت له، ولكن المفاجأة كانت أن "سعد الدين" عندما ناولته عشرة قروش من راتبي الذي دفعت منه "شلناً" أجرة الوصول إلى جرش ضحك ضحكة مدوية تحولت إلى زلزال هزَّ كرشه وأردافه المرتفعة هزات متلاحقة عنيفة ثم قال: "أعطني فوقها عشرة أخرى".

أحسست بموجة برد تهبط من رأسي إلى صدري ومددت يدي إلى جيبي وأنا أكاد أختنق بعبرة طافحة... وأخرجت القروش العشرة المتبقية ووضعتها فوق العشرة الأولى في يد "سعد الدين" الذي ارتسمت على وجهه، الذي بدا متورماً وبحجم بطيخة متوسطة، بسمة تطفح بالسعادة، ومقابل ذلك تسلمت "شهادة الولادة" وخرجت من مبنى دائرة الصحة وأنا أترنح كالثمل... وانحدرت حيث يقع المطعم الذي خططت لأتناول فيه صحن الحمص المدمس مع "القاورمة"... وقفت أمام المطعم لأقل من دقيقة ابتلعت ريقي خلالها ألف مرة وأنا أرى من في داخله يلقمون أفواههم قطعاً من أرغفة الطابون الساخنة المغمسة بما كنت أحلم به في الليلة الماضية.

لم يبقَ معي "شروى نقير" وبدل أتجه إلى "كراج" الباصات اتجهت نحو الطريق العام الذي يمر بالقرب من منطقة الآثار وحرصت وأنا في طريقي إلى الطريق العام أن أمرَّ على "نبع القيروان" وأملأ جوفي بـ"حفنات" من الماء الزلال، وقفت على قارعة الطريق أنتظر رحمة الله... ورفعت يدي ملوحاً لأكثر من عشرين سيارة لكن أياً منها لم تستجب... وفجأة أقدم "باص" صغير وقبل أن يصلني ولدى وقوفه أمامي مباشرة، قال سائقه الأشقر الذي ظننته إنكليزياً من بقايا جماعة "أبو إحْنيج" :أمَّان... أمَّان Amman-Amman.. فرددت عليه بارتباك يس yes  نو no... يسْ... يسْ.

أشار لي بأن أصعد بعد أن فتح باب "الباص" الصغير وهو يبتسم وينظر إليَّ مرة وإلى ثلاثة زملاء له يجلس أحدهم بجانبه مرة أخرى، وصعدت... وما ان انطلق الباص مسرعاً في اتجاه نهر الزرقاء حتى أحسست برغبة في الكلام و"التَّفلسف"، تنحنحت، وعوجت لساني وقلت: إنكلش... English... فردَّ على السائق بتبرم وانزعاج: نو... لأ... صَمَت إلى أن اقترب الباص من الطلوع من وادي الزرقاء في اتجاه صعود قرية المصطبة فقلت مرة أخرى بعد أن عوجت لساني مجدداً: إنكلش...English... فرد السائق بعصبية: نو... جيرمان (ألمان).

شعرت بمزيد من الثقة فتنحنحت مفتعلاً الوقار وقلت: هيتلر... كود هيلتر...Good Hitler... بعد أن رمقني عبر المرآة بنظرة حادة أوقف السائق الباص بعصبية وانفعال وأومأ لي أن أنزل... حاولت أن أقول شيئاً لكنه قال بصوت مرتفع out... Get down إنزل اقلب وجهك وتفوه بشتيمة حفظتها ولم أعرف معناها إلا بعد إلتحاقي بالجامعة، ونزلت من الباص وأنا أشعر أن قلبي يهوي إلى الأرض قبل جسمي... انتظرت لنحو نصف ساعة على قارعة الطريق تحت الشمس الحارقة، ولما لم تقف لي أي سيارة ساقني اليأس إلى أن أصعد الطريق نحو المصطبة في طريقي إلى عمان مشياً على الأقدام، في البداية لم أشعر بأي عداء تجاه هيتلر، لكن بعد نحو ساعة من السير نحو عمان التي وصلتها مساءً بأقدام متورمة وبحالة رثة، أخذت أصرخ بأعلى صوتي: يلعن (أبو هيلتر)... الله ينتقم منك يا هيتلر... يا قاتل يا ملعون الوالدين... الله لا يوفقك... ولا يوفق "سعد الدين".

back to top