جمال البنا المجدد الإسلامي للقرن 21

نشر في 04-02-2013
آخر تحديث 04-02-2013 | 00:01
 د. عبدالحميد الأنصاري غادرنا المفكر والمجدد جمال البنا، ورحل عن دنيانا إلى عالم أرحب وأسعد وأبقى، غادر مصر وهي تموج باضطرابات تحت حكم الإخوان حزب أخيه الشيخ حسن البنا الذي لم يكن على وفاق معهم، غادر هذا الإنسان الفذ دنيانا بعد عمر مديد قضاه في عمل دؤوب في تجديد الفكر الإسلامي وتصحيح انحرافه.

 نذر حياته وما يملكه وهو قليل في سبيل نشر رسالة التجديد الإسلامي عبر مؤلفاته التي بلغت 150 كتاباً والمئات من المقالات والمقابلات، طبع مؤلفاته ونشرها احتساباً لوجه الله تعالى بماله الخاص دون دعم جهة ثقافية أو مؤسسة حكومية أو حزب سياسي، زهد في متاع الدنيا وعاش عيشة الكفاف، واستعلى على الملذات وسم بأخلاقياته.

 كان قنوعاً بالقليل عزوفاً عن الوظائف والمناصب زاهداً في الشهرة والمال والسلطة والجاه، كان بإمكانه أن يجمع الملايين ويقتني الأراضي والعقارات كما فعل غيره من الدعاة، لكنه آثر أن يبقى حراً بفكره مستقلاً بآرائه مكتفياً بما عنده، لم يتقلد وظيفة ولم ينضم إلى حزب سياسي، ولم تستعبده أهواء ذاتية أو مصلحة شخصية، ولم يسع إلى نيل جوائز تقديرية أو تكريمية، وهذا سر قوته ومصدر جرأته وتميز فكرته.

 كان لا يحب الثناء على أعماله لذلك لم يكتب عن نفسه وسيرته كما فعل آخرون، كان رحمه الله تعالى ذا نفس سمحة عفيفة متصالحة لا يضيق بآراء المعارضين مهما بلغت قسوتها.

 تميز أسلوبه بالأدب الجم في حواره مع المخالفين، فلا تكاد تعثر فيما كتب على كلمة جارحة، تعرفت على هذا الإنسان العظيم الذي أثر في تكويني الفكري خلال زياراتي الصيفية للقاهرة في الثمانينيات، كنت مولعاً بالقراءة، أقرأ للجميع للإخوان والشيوعيين والقوميين والليبراليين وغيرهم حتى وقع في يدي كتاب أراه اليوم أهم كتب النبا، بل هو محور كتاباته الإسلامية فيما بعد، إنه كتاب (الأصلان العظيمان الكتاب والسنة: رؤية جديدة)، بهرني الكتاب وهز مسلماتي ومنها قضية النسخ في القرآن الكريم، فسعيت إلى التعرف عليه، واتصلت به تلفونياً فرحب وهكذا تقابلنا في مقهى بشارع الجمهورية وسط القاهرة.

 رأيته إنساناً شديد التواضع واسع الاطلاع والمعرفة، وتعمقت العلاقات حتى جاء في زيارة لقطر لحضور مؤتمر حيث تعرف عليه الأصدقاء وسعدوا به كثيراً، تساءل الكاتب السعودي مشاري الذايدي: هل غاب جمال البنا؟ لا لم يغب، لا يمكن لمثل هذه الشخصية التي أبدعت هذه الأعمال الفكرية الكبيرة أن تغيب، سيظل جمال البنا حاضراً بفكره وكتبه وآرائه.

 كان قدر هذا المفكر الكبير أن يختلف عن أخيه في منهجه الفكري والدعوي، فبينما اتجه الشيخ حسن البنا إلى تكوين جماعة دينية تسعى إلى السلطة اتجه جمال البنا إلى مجال الإصلاح الإسلامي وتجديد الفكر الديني، وإعادة تأسيس منظومة المعرفة الإسلامية عبر كتبه ومقالاته التي أثرت المكتبة العربية وجددت الفكر الإسلامي.

 كثيرون تساءلوا: كيف أمكن لجمال البنا أن يؤلف هذه المؤلفات الكثيرة وبعضها عدة مجلدات مثل: من وثائق الإخوان المسلمين المجهولة في 7 مجلدات؟ وتفسير ذلك يكمن في أمرين: 1- أن الله تعالى أمد في عمره وبارك فيه حتى وصل إلى 93 سنة 2- إنما مفكرنا كان متفرغاً تماماً للبحث والتأليف منصرفاً عن شواغل الدنيا ومباهجها متحرراً من قيود الزوجية والوظيفة، وظل حتى أيامه الأخيرة مواظباً على كتابة مقالاته الأسبوعية.

 عاش جمال البنا للإسلام مجدداً لرسالته، وبذل من حر ماله في سبيل نشر هذه الرسالة التجديدية، لم يتاجر جمال البنا بالإسلام ولم يتكسب من ورائه، وعندما توفيت أخته وتركت له بعض المال، أنشأ (مؤسسة فوزية وجمال البنا للثقافة والإعلام الإسلامي).

 لم أر إسلامياً يقدر المرأة ويحترمها كجمال البنا، هل رأيت شرقياً يقدم اسم اخته على اسمه؟! إنه جمال البنا الذي أنشأ أيضاً دار الفكر الإسلامي، وكان يطبع كتبه فيها، ويوزعها إهداءً، وفتح بابها مكتبة للباحثين لا يبتغي ربحاً تجارياً، وإذا كان من سمات ديننا العظيم، التجديد، وإذا كان الله تعالى يبعث في كل قرن من يجدد لهذه الأمة أمر دينها، وإذا كان الإمام محمد عبده هو مجدد القرن العشرين فإني أرى جمال البنا هو مجدد القرن 21، مصداق ذلك أنه تناول أبرز القضايا الإسلامية في هذا القرن بمعالجة تجديدية وبفقه جديد يختلف عن فقه الأسلاف، كما يختلف عن فقه الأئمة المحدثين.

 دعونا نستعرض أهم قضايا العصر كما وردت في عناوين كتبه: التعددية في مجتمع إسلامي، الإسلام وحرية الفكر، الإسلام والعقلانية، المرأة المسلمة بين تحرير القرآن وتقييد الفقهاء، الحجاب، الجهاد، الإسلام دين وأمة وليس ديناً ودولة، موقفنا من العلمانية والقومية والاشتراكية، قضية تطبيق الشريعة، الربا وعلاقته بالممارسات المصرفية والبنوك الإسلامية، الدعوات الإسلامية المعاصرة ما لها وما عليها، الإسلام وتحديات العصر، تفنيد دعوى حد الردة، الإسلام وتحديات العصر، جناية قبيلة حدثنا، تعميق حاسة العمل في المجتمع الإسلامي، العلاقة مع الآخر الديني.

 هناك من يخطئون قراءة جمال البنا ولا يعرفون عنه إلا أنه كاتب يثير قضايا جدلية منتقدة من بعض الإسلاميين وشيوخ الأزهر مثل إجازة إمامة المرأة للرجل في الصلاة إن كانت أعلم منه بالقرآن، وأن عقوبة الردة لا تستوجب القتل، وأن التدخين في رمضان لا يبطل الصوم، وأن الأديان لا ينسخ بعضها بعضاً، ولكن يكمل بعضها بعضاً، وأن الحجاب ليس فرضاً بل أمر شخصي مثل إطلاق اللحية أو حلقها، وليسا من جوهر الدين إنما سبيلهما سبيل العادة والعرف.

 هؤلاء لا يعرفون جمال البنا، هو قبل هذه الأمور وبعدها صاحب رسالة تجديدية عظيمة ودعوة مستنيرة هي (دعوة الإحياء الإسلامي) من أبرز ملامحها: الإيمان بالله تعالى محور الوجود ورمز الكمال والعقل والغائية، والإيمان بالأنبياء قادة حقيقيين للبشرية ومثلاً عليا، والإيمان بالأديان كثورات حررت الجماهير وهي في أصلها واحد مع تعدد الشرائع، وأن الدين هو المقوم الأعظم للمجتمع العربي ويمثل التاريخ والحضارة والضمير، والإيمان بكرامة الإنسان فلا تملك قوة أن تحرمه منها، وهي لكل الجنس البشري، وأن الإسلام إنما أنزل للإنسان ولم يخلق الإنسان للإسلام.

 فالإنسان هو الغاية والإسلام هو الوسيلة، والإيمان بحرية الفكر والتعبير، وأنها أساس كل تقدم فلا يجوز أن يقف في سبيلها شيء، ويكون الرد على ما يخالف ثوابت العقيدة بالكلمة لا بالمصادرة أو الإرهاب أو التكفير، ولا توجد الحرية إلا بتقرير حرية الصحف والمطبوعات وتكوين الأحزاب والهيئات والنقابات، والرفض تماماً لعدوى التكفير والعقوبة على الردة، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يفصل فيها يوم القيامة، ووجوب أن يكون العدل أساس التعامل بين الحكام والمحكومين.

 وأن التحدي العملي الذي يجابه الدول الإسلامية اليوم هو التخلف اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً واجتماعيا، ولا يمكن وقف هذا التخلف إلا بجعل (التنمية) معركة حضارية تحت لواء الإسلام باعتبارها النمط المطلوب من الجهاد، كما لا يمكن تحقيق أي إحياء إلا بالعودة رأساً إلى القرآن الكريم وإطراح التفاسير وضبط السنة بضوابط القرآن، وعدم التقيد بما وضعه الأسلاف من فنون واجتهادات ومذهبيات تأثروا فيها بروح عصرهم وسيادة الجهالة واستبداد الحكام وصعوبات البحث والدرس.

 وأن على كل جيل أن يعيش عصره دون الإخلال بالقيم العظمى بالإسلام، وأن الإسلام لا يحتكر وحده الحكمة، ولكنه ينشدها إن وجدها، ومن هنا فإن النزعة الماضوية الانعزالية واتخاذ نمط المجتمع الذي كان موجوداً من قبل باعتباره النمط الأمثل والضيق بكل مستجدات العصر من فنون وآداب والنظرة المتخلفة للمرأة وحبسها وراء الأسوار.

 كل هذا يخالف جوهر الإسلام وعالميته وصلاحيته لكل زمان ومكان، كما أنه ليس هناك خوف من أن يذوب المسلم في الحضارة العصرية، لأن خيطاً وثيقاً يربطه بالله والرسول يبقي له قدراً من القيم التي تكبح جماحه.

 * كاتب قطري

back to top