«وكم ذا بمصر من المضحكات... ولكنه ضحك كالبكاء»، قالها الشاعر أبو الطيب المتنبي منذ ما يزيد على ألف عام، لكنه لم يدر أن يوماً سيأتي على مصر تحارب فيه الثقافة الحقة، وتحتفي بكل ما هو غث ورخيص!

Ad

يحدث هذا الآن على يد وزير الثقافة المصري محمد صابر عرب، الذي فاجأ الجميع، وكأنها خطة محكمة لتخريب الثقافة، عبر الإساءة إلى صورة المثقفين والتشكيك في ذممهم، بالموافقة على رعاية مهرجان يحمل اسم «كام السينمائي الدولي للأفلام القصيرة»، وجند أجهزة وزارته لدعم الدورة الثانية (27-22 ديسمبر 2012)، التي شهد بنفسه حفل افتتاحها، من دون أن يفكر لحظة في التثبت من هوية المهرجان، وتوجهاته الحقيقية أو غرض الجمعية التي تنظمه من إقامته!

لم يفطن الوزير، ولا نعرف إن كان هذا قد تم عن جهل أو تجاهل، إلى أن هذه الجمعية تعثرت كثيراً في إقامة الدورة الثانية نتيجة فقدان مصداقيتها، وغياب ثقة أطراف عدة في القيمين عليها، الأمر الذي تسبب في انسحاب الفنان هشام سليم، الذي اختير رئيساً للدورة، قبل شهر من إطلاقها، كذلك أعلن المدير التنفيذي للمهرجان انسحابه مُرجعاً قراره إلى «سوء الإدارة من رئيس الجمعية المنظمة للمهرجان، والاختيار السيئ للفريق المعاون وقلة الخبرة والكفاءة التي أدت إلى تعطيل المهرجان لأكثر من عام، وإلى انسحاب عدد كبير من المشاركين في لجنة التحكيم، وعدم توافر موارد مالية في الجمعية المنظمة لإقامة المهرجان بشكل لائق»!

تجاهل وزير الثقافة ومستشاروه تلك الاعترافات الفاضحة والتزموا الصمت حيال الإشارات المزعجة التي تنبئ بأن ثمة «كارثة» تدق الأبواب، وعلى رأسها مثلاً البند «الرابع» الذي ليس له مثيل في لوائح المهرجانات السينمائية في العالم أجمع، وينص على: {يمنح المهرجان الجائزة الذهبية وقدرها ثلاثة آلاف دولار، والفضية وقدرها ألفي دولار والبرونزية وقدرها ألف دولار»، وينتهي البند بعبارة «تُمنح هذه الجوائز في حال وجود راعٍ لها»!

بند «عجيب» يمنح إدارة الجمعية المنظمة للمهرجان الحق في «التغرير» بأصحاب الجوائز، ويُخفي أهدافاً مشبوهة مثلما يعكس غياب الشفافية، ويُقر وضعاً لا مثيل له في مهرجانات العالم، التي تُعلن على الملأ ومنذ اللحظة الأولى لتأسيسها إن كانت قادرة على منح جوائز مالية أو تكتفي بجوائز معنوية، أو تكتفي بالعرض فقط كمهرجان «لندن» السينمائي الشهير. ولهذا السبب لم أفاجأ مُطلقاً عندما استنكر المخرج الشاب أدهم الشريف تهرب إدارة المهرجان من منحه مبلغ الثلاثة آلاف دولار التي يستحقها، بعد فوز فيلمه الساحر «أحد سكان المدينة» (كتبنا عنه في هذه الزاوية تحت عنوان «عودة الكلب الضال») بالجائزة الذهبية لمسابقة الفيلم الروائي القصير، وهدد برفع دعوى قضائية ضد الجمعية المنظمة للمهرجان مُطالباً بحقه القانوني في الجائزة!

كنت أتمنى أن يُحرك المخرج الشاب دعوى قضائية مماثلة ضد محمد صابر عرب، باعتباره شريكاً أساسياً في جريمة «التغرير» التي جرت وقائعها على الملأ؛ فالوزير هو الذي أسبغ شرعية على المهرجان بحضوره حفلة افتتاحه، وهو الذي منحه حصانة بموافقته «الغامضة» على تجنيد قطاعات وزارته: صندوق التنمية الثقافية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، المجلس الأعلى للثقافة وقطاع العلاقات الثقافية الخارجية لخدمة «كيان» يعترف القيمون عليه بأنهم اختاروا اسم «كام» «تيمناً بمهرجان «كان» الأشهر سينمائياً»، وبنوا دعايتهم على عبارة «ليه نفكر في «كان» واحنا عندنا «كام»، وكأننا بصدد الإعلان عن مسحوق غسيل أو مقويات جنسية!

مهرجان «كام»، الذي رعاه وزير الثقافة، هو أيضاً الذي برر اختيار عنوان «كام» بقوله: «الكلمة تعني باللفظ المصري المحلي «العدد»، وبالتالي فهو لا يرفض أي فيلم يتقدم للمشاركة، ويعترف بأنه يلهث وراء الكم ولا يلقى بالاً بالنوعية والكيف والقيمة والسوية!     

المفارقة المدهشة أن محمد صابر عرب هو نفسه الذي أعاد مهرجان القاهرة السينمائي الدولي إلى «حظيرة وزارته»، وتحدى الرأي العام بقرار تكليف «الحرس القديم» بإدارته، وصدم الجميع بقرار عزل المهرجان، وسجنه خلف قضبان الأوبرا، ولم يكتف بالانقضاض على مهرجان القاهرة السينمائي لكنه لجأ، في محاولة يائسة من جانبه لإحكام قبضته ووزارته على بقية المهرجانات السينمائية المصرية، إلى ملاحقة مهرجاني «الأقصر للسينما الأوروبية» و{الأقصر للسينما الإفريقية»، والتهديد بإيقاف الدعم عنهما، تمهيداً لإغلاقهما نهائياً، في الوقت الذي وهب روحه، ومنح ثقته المُطلقة لمهرجان ليس فوق مستوى الشبهات، وأصر على احتضانه وكأنه طفله الذي أنجبه وهو في أرذل العمر!