"يُحظر على الكونغرس سن أي قانون يؤدّي إلى دعم ممارسة دين معين، أو سن أي قانون يؤدّي إلى منع ممارسة دين معين؛ كما يُحظر عليه إصدار أي تشريع يؤدّي إلى تعطيل حرية الكلام أو النشر الصحافي أو حق الناس في إقامة تجمعات سلمية أو إرسالهم عرائض إلى الحكومة تطالبها برفع الظلم".

Ad

النص السابق يمثل التعديل الأول من الدستور الأميركي؛ وهو التعديل الذي جاء على رأس "وثيقة الحقوق"، التي صاغها جيمس ماديسون، في عام 1789، قبل أن يتم إقرارها من قبل ثلاثة أرباع الولايات الأميركية في 15 ديسمبر من عام 1791، لتصبح منذ ذلك اليوم وثيقة نافذة، خرجت من رحم الصراع الأيديولوجي، الذي تعمّد بالدم بين مناصري الاتحاد الفدرالي ورافضيه.

يأتي هذا التعديل في صدارة تعديلات عشرة تم إقرارها والعمل بها في الولايات المتحدة إلى يومنا هذا، بعدما شعر الأميركيون الأوائل أن حرياتهم الدينية وحقهم في الكلام تخضع لضغوط ومساومات ومحاولات للتقييد، وبعدما أيقنوا أن الحرية هي الضمانة الأولى لرشد الحكومة، والدرع الأولى لمواجهة نزعات الفاشية والطغيان.

تحدد تلك التعديلات العشرة الحقوق والامتيازات والحريات التي لا يجوز للحكومة الفدرالية أن تمنعها أو تحد منها. وتعتبر أن "ثمة حقائق يجب أن تكون بدهية؛ على رأسها أن كل البشر خلقوا متساوين، وأن خالقهم وهبهم حقوقاً معينة غير قابلة للتصرّف؛ من بينها الحق في الحياة، والحرية، ونشدان السعادة. ولضمان هذه الحقوق، تمّ إنشاء الحكومات بين الناس، لتستمد سلطاتها من موافقة المحكومين ورضاهم".

يقدم التعديل الأول للدستور الأميركي رؤية جديرة بأن تكون ملهمة لأي أمة تريد أن تبني دولة على أسس من العدالة والمساواة والحرية، ويمثل الالتزام بتلك الرؤية وتفعيلها قيداً صعباً وعصياً على الاختراق من جانب هؤلاء الذين يحاولون قمع الشعوب وتكميم الأفواه، أو إغراق الأمم في التناحر الطائفي وتكريس الاستعلاء الديني والشوفينية من أجل إحكام السيطرة.

لا ينطوي الأداء العالمي الأميركي على الكثير من الإشراقات التي يمكن الاقتداء بها في مجال دعم الحرية والديمقراطية دعماً حقيقياً وفعالاً، كما أن "القيم الأميركية" التي تم الترويج لها كثيراً، لم تحظ بالصدقية الملائمة لدى شعوب العالم المختلفة، وخاصة شعوب الدول المتخلفة أو الأقل نمواً؛ إذ ظلت البراغماتية الأميركية في التعاطي مع الأنظمة المستبدة، بغرض صيانة المصالح العليا لواشنطن، عائقاً دون احترام تلك القيم، ودافعاً لاستباحتها والمساومة عليها، كلما تعلق الأمر بمصلحة أمنية أو اقتصادية أو استراتيجية واضحة.

يدافع مفكرون وسياسيون وناشطون أميركيون عن ضرورة إعطاء حكومتهم إشارات أكبر إلى أنها تريد أن تتبنى تلك الحقوق على الصعيد العالمي. ويعتبرون أن الحقوق التي ينطوي عليها "التعديل الأول" خصوصاً لا يمكن أن تكون مكسباً محلياً لشعب واحد أو شعوب منطقة معينة أو دول ذات أوضاع اقتصادية وسياسية واجتماعية متقدمة فقط. ويرى هؤلاء أن عدم دعم تلك الحقوق والقيم على المستوى العالمي سيشكل خسارة للبشرية كلها، وسيجلب أضراراً للجميع؛ سواء كانوا في الشمال أو الجنوب، وسواء كانوا ضمن مجموعة الثماني الكبرى أو في الصين أو إيران أو الشرق الأوسط أو كوريا الشمالية أو إفريقيا جنوب الصحراء.

لذلك، تنتشر الدعوات في الأوساط الفكرية والسياسية الأميركية راهناً من أجل تحقيق ما تم تسميته بـ"عولمة التعديل الأول"؛ أي سعي واشنطن إلى دعم ما ينطوي عليه هذا التعديل باعتباره قيماً عالمية لا تتم المساومة عليها، بل تصبح تلك القيم عاملاً رئيساً في تحديد شكل العلاقات الأميركية بدول العالم الثالث، التي ما زالت تتعرض فيها تلك الحقوق للتغول والانتهاك.

فهل يمكن أن تستجيب واشنطن تلك الدعوات؟ أي هل يتغلب الوازع القيّمي على الدافع المصلحي في سياساتها العالمية، في ما يخص استحقاقات "التعديل الأول"؟

لا يبدو أن ذلك ممكن حتى تلك اللحظة، بل ثمة ما يشير إلى أن واشنطن لا تقيم وزناً لتلك القيم في كل الأحوال؛ إذ تستخدمها عادة للضغط على الدول المناوئة التي تتصادم مع رؤيتها السياسية ولا تتجاوب مع تشخيصها لمصالحها، في ما تغض الطرف عنها تماماً حينما تقع الانتهاكات بحقها من أنظمة تحقق تلك المصالح.

تمثل إيران وسورية وكوريا الشمالية؛ وهي الدول التي وصفها جورج بوش الابن بـ"محور الشر"، ميداناً خصباً لحديث واشنطن عن بعض تلك القيم، لكن الأمر يبدو على غير هذا النحو حينما يأتي الحديث عن الصين؛ إذ تخضع تلك القيم لمساومات واضحة على مقياس نفعي تتأرجح عليه حالة العلاقات بين واشنطن وبكين.

فلو حاولنا أن نبحث إمكانية أن تكون قيم "التعديل الأول" موضوعاً للنقاش السياسي بين دول الخليج العربية وواشنطن مثلاً، لأدركنا أن هذا الأمر غير مطروح في الوقت الراهن، بل سيمكننا أيضاً أن نتنبأ بإمكانية طرح تلك القيم على طاولة أي تفاعل أو جدال أميركي- خليجي، فقط إذا توترت العلاقات أو اختلفت الرؤى في ما يخص الاستراتيجية الأميركية في المنطقة.

لكن الصورة تبدو مأساوية ومغرقة في البراغماتية وشديدة الإحراج لواشنطن عندما يأتي الحديث عن دول ما عُرف بـ"الربيع العربي"، أو تلك الدول التي ما زالت تتفاعل فيها انتفاضات مسلحة تحت عنوان "الحرية" مثل سورية. تأخذ دول التغيير العربي مسارات تناقض قيم "التعديل الأول" بوضوح، ويخلق بعضها أوضاعاً أكثر انغلاقاً وتمييزاً من تلك التي كرستها الأنظمة المستبدة المطاحة.

تتوالى الانتهاكات في حق حرية الرأي والتعبير في مصر وتونس وليبيا واليمن، وتسن بعض الهيئات التشريعية في تلك الدول قوانين تكرس تمييزاً دينياً؛ بل إن دولة مثل مصر شهدت "ثورة" بدأت عظيمة تحت شعار "الحرية"، سنت قانوناً يتيح التنافس الانتخابي تحت شعارات دينية، ورعت الحكومة فيها أعمال عنف وحصار بحق صحافيين وإعلاميين ووسائل إعلام.

لا تختلف الأمور كثيراً في دول التغيير العربي الأخرى، خصوصاً تونس التي باتت تحت حكم إسلامي أيضاً، في ما تشهد ليبيا واليمن انتهاكات متكررة بحق حرية الكلام والصحافة.

تريد واشنطن أن تبني علاقات مع النظم الجديدة في دول التغيير العربي تصون من خلالها مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، ولذلك فهي تغض الطرف عن انتهاكات عميقة بحق المساواة واحترام العقائد والحريات المدنية وفي القلب منها حرية الكلام والصحافة والإعلام.

واشنطن تساوم مجدداً على مبادئها وقيمها؛ وهو أمر رخيص ومخيب للآمال.

* كاتب مصري