مواقف وتصريحات رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان من مصر، فاقت كل التصورات وتجاوزت كل الحسابات وانتهكت كل قواعد الأعراف الدولية للعلاقات، أن يرى أردوغان ما حصل في مصر مجرد "انقلاب عسكري"، ويتخذ موقفاً هجومياً منه، فهذا شأنه وشأن الكثيرين هنا وهناك، وأن يهاجم تدخل الجيش في الحياة السياسية فهذا موقف يمكن تفهمه من منطلق خشيته أن يحدث عنده ما حدث في مصر، وهو الذي عانى حزبه تدخلات الجيش وإسقاطه لحكومات متعاقبة حتى نجح مؤخراً في تقليم وشل يد الجيش بإدخاله تعديلات دستورية معينة.

Ad

 وأن يتباكى على ابنة البلتاجي– القيادي الإخواني- التي لقيت حتفها في فض الاعتصام، ملوحاً بالأصابع الأربعة تأييداً لاعتصام رابعة، متهماً الجيش المصري بقتل النساء والأطفال الرضع ومردداً بأن من وقف أمام الدبابات لم يكن بيده سلاح ولا مولوتوف ولا حتى مجرد حجر، لدرجة قيام الإعلام التركي بترويج مشهد فيديو لأطفال قتلوا في سورية على أنه حصل في رابعة، فهذا أيضاً، من يبرره بأن معلومات أردوغان مستقاة من مصدر إخواني أحادي مزيف.

 تباكي أردوغان على ديمقراطية الإخوان بعد 70 سنة من حكم العسكر وتنديده بالجيش المصري الذي أجهز على هذه الديمقراطية الوليدة، والتي لم يستطع المصريون الصبر عليها إلا سنة، وإشادته بحكم صديقه مرسي الذي كان سينهض بمصر وينتشلها من الفساد والفقر، ثم تماديه في الخيال والأوهام وتلويحه بوثيقة مزعومة بأن إسرائيل وراء عزل صديقه مرسي! كل هذه المواقف والتصريحات يمكن تفهمها أو تبريرها في سياق التأزم السياسي الذي يمر به أردوغان وحزبه في مواجهة المعارضة المتصاعدة لحكمه.

 فهو يريد استثمار الملف المصري في الداخل التركي لهدفين: 1- توحيد صفوف حزبه وكسب المؤيدين. 2- شيطنة المعارضة وتصويرها بالسعي للانقلاب؛ لذا يجد أرودغان فيما يحصل في مصر، موضوعاً يستخدمه داخلياً لإضعاف خصومه، وبخاصة أن الشارع التركي معبأ أو معقد من تدخلات الجيش، والمزاج التركي لا يؤيد الانقلابات العسكرية، ومن يؤيدها يخسر شعبيته، وهذا سر تمسك أردوغان بأن ما حصل في مصر، مجرد انقلاب عسكري، مع أن سائر دول العالم تراجعت عن هذا الوصف بعد أن اتضحت الصورة كاملة، وبدأ العالم كله يتكلم عن وجهتي النظر، وينقل الصورتين كاملتين ما عدا تركيا التي تصر على نقل المشهد المصري بوجهة نظر إخوانية دون نقل الصورة المقابلة.

 فلأردوغان مصلحة سياسية داخلية في هذا الإصرار الذي وصل إلى درجة المكابرة عن رؤية الحدث المصري كاملاً، وأن هناك ثورة شعبية كبرى قامت واستعانت بالجيش لإسقاط حكم حلفائه الإخوان، ولكن ما ليس مقبولاً ولا معقولاً ولا مبرراً ولا لائقاً ولا يمكن الدفاع عنه كما لا يمكن السكوت عليه أن يتجاوز أردوغان استغلال الحدث المصري داخلياً إلى مواقف تحمل الكثير من الإساءة والتشويه والتطاول على رموز ومؤسسات ودول، وقد تعود بالخسران على مصالح تركيا في العالم العربي، بل على صورة تركيا في العالمين العربي والإسلامي.

من تلك المواقف المشينة:

 1- تطاول أردوغان على فضيلة الإمام الأكبر د.أحمد الطيب، لأنه وقف مؤيداً الشعب المصري في رسم خارطة الطريق، أردوغان بهذا التطاول استفز الجميع في مصر وخارجها، وأساء إلى نفسه، وقد أحسن شيخ الأزهر بترفعه عن الرد كما أحسن بطمأنة الطلاب الأتراك الدارسين بجامعة الأزهر بأنهم محل حماية ورعاية الأزهر كأبناء لا تأثير لموقف الحكومة التركية في معاملتهم.

2- تشويه صورة الجيش المصري لدى الشارع التركي المتأثر بإعلامه المتبني رؤية الإخوان للحدث المصري، لقد هاجم أردوغان الجيش المصري أكثر من الإخوان أنفسهم، وصوره كقوة باطشة لا تتورع عن سحق المتظاهرين الأبرياء تحت الدبابات، بل حتى الأطفال الرضع لم يسلموا من البطش، والحقيقة أنني لم أجد تحاملاً على الجيش المصري أشد من تحامل أردوغان بل حتى على جيش النظام السوري!

3- استعداء وتحريض القوى الكبرى على مصر، أردوغان  يردد ويطالب بعناد أوروبا وأميركا بالتدخل في مصر، وهو اليوم يخطب منتقداً متحسراً على تقاعس الأوروبيين والولايات المتحدة، وعدم تدخلهم لتخليص صديقه مرسي من قبضة العسكر وإرجاعه إلى الكرسي، وإذا كانت محاولة استفادة أردوغان من الشأن المصري في الشأن الداخلي، أمراً يمكن تجاوزه، إلا أن استعداء الدول على مصر، يعد دوراً عدائياً ليس موجهاً ضد الحكومة المصرية فحسب، بل ضد الشعب المصري كله؛ مما يكون له أثر سيئ في العلاقات التاريخية بين الشعبين.

 أتصور أن هذه هي الدوافع الأساسية التي تحكم مسلكيات أردوغان بأكثر من الدوافع الأيديولوجية المرتبطة بالإخوان، ولكن التساؤلات هنا: إلى أي مدى يتطابق القول مع الفعل، وما مصداقية أردوغان السياسية؟! يلاحظ المراقبون أن تصريحات أردوغان –للداخل- على امتداد سنوات طويلة، تتناقض مع سياسة حكومته بالنسبة إلى العلاقات الخارجية مع الدول التي يهاجمها، وخذ على سبيل المثال ثلاثة مواقف:

1- الموقف من إسرائيل: معروف أن أردوغان اتخذ سلسلة من المواقف العنترية تجاه إسرائيل، بدءاً من منصة دافوس وانتهاءً بسفينة (مرمرة) مايو 2010 التي هاجمتها إسرائيل، وقتلت 9 نشطاء أتراك، والحقيقة أن هذه المواقف العنترية ما كانت إلا غطاءً مظهرياً لتلميع صورته داخلياً وخارجياً كبطل إسلامي يتحدى إسرائيل ويدافع عن مصالح المسلمين، في الوقت الذي وجدنا الحكومة التركية حريصة على علاقاتها الاقتصادية والعسكرية بإسرائيل، فقط ألغت المناورات العسكرية، إلا أن كل الاتفاقيات والصفقات ظلت سارية، بل إن السياحة الإسرائيلية لتركيا تضاعفت 4 مرات.

2- الموقف من نظام مبارك: كانت علاقة أردوغان بنظام مبارك وثيقة، بدأت بأول اتفاقية للتجارة الحرة 2005 لتتصاعد الاتفاقيات وتشمل جميع أوجه التعاون الثقافي والعسكري، وتواصلت لدرجة توقيع اتفاقية للتعاون الاستراتيجي، وحال تنحي مبارك دون توقيعها، الأمر الذي تم في عهد الإخوان، وكل هذا كان يجري في الوقت الذي كان أردوغان ينصح مبارك بالتنحي بعد ثورة 25 يناير!

3- الموقف من الحكم الجديد في مصر: بالرغم من تظاهر أردوغان بمهاجمة الحكم الجديد في مصر فإن كل العلاقات التجارية والدبلوماسية مستمرة سواءً على المستوى الرسمي أو على مستوى قطاع رجال الأعمال.

 ونجد موقف تركيا من مصر يتناقض بين موقف الرئيس تركي عبدالله غول ورئيس حكومته! ما معنى ذلك؟ معناه أن تركيا تفصل علاقاتها الخارجية القائمة على المصالح، عن مواقفها الداخلية المحكومة باللعبة الانتخابية، أي أن تركيا تفصل بين "عقلها" و"قلبها" في ما يتعلق بمصالحها الخارجية.

ومن هنا: أرى أنه من الخطأ أن ينساق المصريون وراء دعوات المقاطعة للبضائع التركية والسياحة والمسلسلات التركية، لأن منهج المقاطعة فقد جدواه في عالم أصبح متشابكاً يقوم على مبدأ الاعتماد المتبادل، ولأن منهج ردود الفعل ضرره أكثر من نفعه، ولأن علاقات الدول يفترض أن تقوم على الفصل بين: أهواء "القلب" ومتطلبات "العقل" وعلى الحكومة المصرية التحلي بالصبر وضبط النفس والتحكم في رد الفعل مع بذل المزيد من الجهود السياسية والشعبية لتوضيح الصورة الكاملة للشعب التركي وكسبه.

 فالأمور تتغير والخصم يصبح صديقاً والشعب التركي سيقول كلمته الحقيقية في النهاية، إذا استقرت الأوضاع في مصر وعادت الأمور إلى مسارها الطبيعي بإذن الله تعالى.

* كاتب قطري