ديونيسوس

نشر في 03-10-2013
آخر تحديث 03-10-2013 | 00:01
 فوزي كريم لحصاد الأعناب وخمرتها إلهٌ لدى اليونان يُدعى ديونيسوس. ولهذا الإله طقوس عربدة تليق بالخمرة، وجنونٌ وملذاتٌ حسية. ولكن صخبَ المسرات الحسية هذا يكشف عن علاقة مشيمية تربط جانباً خفياً من الكائن الانساني، ومن المجتمع الإنساني، بكل ما هو مضطرب مشوّش، وما هو خطير وغير متوقّع، وما هو فالت من العقل، عادة ما يكون ذا سمة كامنة فيهما، بصورة داخلية، دفينة، غامضة وغير مرئية. إنه اشبه بـ»ليبيدو» علم النفس، الذي لا تملك «الأنا» السيطرة عليه. ولكنه في الآن ذاته ينبوع الخلق الفني والإبداع.

المهرجانات التي تُقام باسم إله العربدة هذا في اليونان المبكرة كانت القوة المحركة لنشأة فن الدراما لديهم. وإلى هذه الدراما توجه الفيلسوف الألماني نيتشه في كتابه «مولد التراجيديا»، ومن خلالها توجه إلى ديونيسوس. لقد وجد هرمزَ المبدأ الجمالي الأساسي الذي لا يُكبح، للقوة وللموسيقى وللثمَل العاطفي، ووضعه في مقابل الإله «أبولّو» رمزاً لمبدأ صيغة الشكل المثلى، والتوازن والجمال. إن التراجيديا اليونانية اعتمدت في نشأتها على معاناة ديونيسوس. وفي مرحلة جنون نيتشه، في السنتين الأخيرتين من حياته كتب قصيدته «كورال ديونيسوس».

هذه «الروح الديونيسية» كانت قد خُنقت من قبل الفرضية السُقراطية، التي ترى أن «الفضيلة هي المعرفة، وخطايا الانسان وليدة الجهل، والفاضل وحده السعيد». ولقد اتهم «نيتشه» عصره «بهذه النزعة السقراطية المصممة على تحطيم الاسطورة. بحيث تركت الانسان المجرد من الاسطورة اليوم يقف جائعاً، محاطاً بكل عصور الماضي، نابشاً، منقباً عن الجذور.

 الموسيقي الألماني «ولفغانغ ريم» (مواليد 1952)، وهو غني وكثير الانتاج، وضع أوبرا عام 2010 حول ديونيسوس، عبر رؤى نيتشه التي سجلها في قصيدته «كورال ديونيسوس». عُرض العمل في مهرجان سالزبورغ من نفس العام. ولقد صدر الآن على اسطوانة DVD. الموسيقي اعتمد النص النيتشوي للأوبرا، ووزعه على أصوات المغنين. وشخوص المغنين، شأن تتابع الأحداث، تتعرض لتحولات كبيرة. فالبطل «ن» الذي يمثل نيتشه، أو أي إنسان منا، يظهر أولاً على هيئة شاعر مشعث الشعر، عركته الحياة فانهكته. جوال يبحث عن قدحة إلهام ديونيسسية. حوريتا بحر تحاولان إغواءه. وفجأة تتحول إحداهما إلى «أريادنة»، الأميرة التي حاولت إغواء آنياس وهو في طريقه من طروادة المهزومة إلى إيطاليا لتأسيس مدينة روما. كانت تحاول مع «ن»، ولكنه يكتفي بترديد جملته «أنا متاهتك أنت.» ثم يظهر أشعث آخر باسم «الضيف»، يصحب «ن» في تجواله حول القمم، وفوق الهاوية، حيث لا أمل. ثم نقع عليهما فجأة في مبغى، وإذا بهما عدوين لدودين. الأوبرا هنا تتحول إلى نسيج أسطوري خالص، حيث يُمزق جسد «الضيف»، ويظهر أبولّو ليشرف على شعائر تحليق جلد «ن» الذي يُسلخ.

  سيناريو بالغ الغرابة يحلّق مع نص نيتشه الشعري، الذي هو محض شظايا. والموسيقى تتدفق في منحى خارج دائرة السلم الموسيقي المألوف في الموسيقى الكلاسيكية. وفي كل مشهد يفاجئنا لحن مستوحى من موسيقي سابق، يبدو أن المؤلف «ريم» يحيطه بحفاوة خاصة. فالحوريتان تشيران إلى حوريات الراين لفاغنر في أوبرا «الخاتم»، والنسوة الثلاث إلى زائرات ملكة الليل في أوبرا موتسارت «الناي السحري». وتلك إلى «أريادنة» شتراوس، وأغنية «ن» بصحبة البيانو إلى أغنية شوبرت في «رحلة شتاء» الشهيرة. وكأن هذه التشظية في النص الشعري، وفي التسلسل الحكائي، وفي السياق الموسيقي واعتماد المقتطفات، ليست إلا تعزيزاً للبناء الأسطوري في الأوبرا.

عملٌ رائع أدخلني في غمر الأسطورة الذي تبينُ فيه الدلالاتُ على هيئة أشباحِ أفكارٍ، وأشباحِ هواجسَ ومشاعر. مشاهدتُه أشبه بقراءة قصيدة طويلة من الطراز الذي أحب. القصيدة المفكرة، لا عبر البيانات الذهنية المجردة، بل عبر الموسيقى الغنية، والصورة والمشهد المرئي، وتداخل الخطوط اللحنية التي تشكل نسيجاً هارمونياً.

back to top