يقتبس فيلم "وارث الريح" القصة الحقيقية لجون سكوبس الذي أدين في قضية تدريس نظرية تشارلز داروين لمدرسة ثانوية في تنيسي في الولايات المتحدة بما يخالف قانون الولاية، وذلك في سنة 1925. يبدو الفيلم وكأنه قصيدة شعرية تنويرية، خصوصاً فيما يختص بمرافعات المحامي المكلف بالدفاع عن سكوبس، كما أن المخرج أبدع في عرض وجهات النظر المختلفة، لتتجلى المشاعر الإنسانية من خوف وغضب أهل المدينة، اللذين على الرغم من أنهما نتاج تعصب وجهل، فإنهما لا يثيران سوى الرثاء والتعاطف، حيث لا تجدك إلا متفهماً متسامحاً مع أفراد سيطر عليهم خطاب ديني تخويفي وتعصب قديم متجذر لا يستطيعون منه فكاكاً، حتى لتشعر أن كل شخصية هي في الواقع حبيسة نفسها ومخاوفها وتطرفها، وكل محاولة للخروج تكون مؤلمة حد المرض، بل قد تفضي إلى الموت كما حصل لمحامي الادعاء.
"الفكرة لهي نصب أعظم من كاتدرائية" يقول محامي الدفاع في إحدى مرافعاته. تقف هذه الجملة مغتربة في مواجهة مجتمعاتنا حيث المكان أهم من الإنسان، والقصة التراثية أهم من الفكرة الحضارية، والاتباع والرضوخ والسير في انتظام الصف لا يمكن أن يفسحوا الطريق لأي مختلف. "لماذا أعطانا الله القوة للتفكير"، يتساءل محامي الدفاع في الفيلم مخاطباً محامي الادعاء "لماذا تنكر الملكة الوحيدة للإنسان التي تعليه فوق بقية مخلوقات الأرض، قدرة عقله على التفكير المنطقي؟ ما هي المميزات الأخرى التي نملكها؟ الفيل أضخم، الحصان أسرع وأقوى، الفراشة أكثر جمالاً، البعوضة أكثر خصوبة، حتى الإسفنج أكثر تحملاً، أم هل يفكر الإسفنج؟". السؤال الذي يطرحه المحامي هو سؤال فلسفي قديم قدم تعصب الإنسان، قديم قدم رضوخه وتسليمه لعقله وتنازله عن حقه في استعماله. مؤلم أن يستمر هذا الداء، هذا الرضوخ المريض المصحوب بمخاوف لا يمكن سوى الوقوف أمامها بكل شفقة وحنان. أرى هذه المخاوف في عيون الجيل الجديد أحياناً حين أسألهم سؤالاً يعتقدون أنه لا يحتمل إلا إجابة واحدة. يجدون في الإقدام على السؤال ذاته غرابةً، وفي محاولة التفكير فيه تضييعاً للوقت، وفي محاولة تحدي قدم إجابته إثماً عظيماً. انتهى الدور الإنساني قبل أن يبدأ، سُلم العقل لماض لا يحتمل الجدل، وتبددت كل الآمال في حياة حرة مثمرة.أتذكر في مرحلة الثانوية، مادة الأحياء، أن درسنا نبذة قصيرة عن نظرية التطور لداروين، ثم صفحتين أو ثلاث لإثبات فشلها وانهيارها. بعد أن كبرت وخرجت من تحت وصاية المناهج الدراسية شعرت بخديعة كبيرة أولاً بعد أن فهمت المعنى الحقيقي لكلمة "نظرية" التي لا تعني بالضرورة فكرة غير مثبتة، بل قد تشير إلى فكرة راسخة بالأدلة والإثباتات، وثانياً بعد أن تيقنت من أن نظرية داروين ليست مجرد فكرة قابلة للنقض، إنها حقيقة علمية مثبتة بالأدلة المحسوسة، ونظرية محققة حول نشأة النوع الإنساني غير قابلة للرفض الساذج المتعلق بأهداب الماضي القديم. لا يعرف الجيل الجديد الكثير عن نظرية داروين، يكررون عند سؤالهم: "مو هذا اللي يقول أصل الإنسان قرد؟" وهكذا ينحدر داروين إلى "هذا"، ونظريته العلمية الخارقة للتطور والانتقاء الطبيعي إلى "أصل الإنسان قرد"، في إشارة حزينة إلى تغييب الحياة عنّا وغيابنا عن حقائقها. يقول محامي الدفاع في الفيلم مخاطباً محامي الادعاء "ألا تفهم، إذا أخذت قانوناً مثل قانون التطور وجعلت من تدريسه في المدارس الحكومية جريمة، غداً ستجعل من تدريسه في المدارس الخاصة جريمة، وغداً قد تجعل من القراءة عنه جريمة وسريعاً ما ستمنع الكتب والجرائد، ثم يمكنك أن تضع الكاثوليك في مواجهة البروتستانت، والبروتستانت في مواجهة البروتستانت لتفرض دينك على عقل الإنسان ... لأن التعصب والجهل مشغولان للأبد ويحتاجان للتغذية، وسريعاً وبالرايات ترفرف عالياً وبالطبول تقرع، سنحث الخطو للخلف، للخلف، إلى أزمنة القرن السادس عشر المجيدة عندما أحرق المتعصبون الرجل الذي تجرأ فاستحضر التنوير والإدراك للعقل الإنساني". طبولنا ها هنا تقرع، وخطانا تحث سيرها للخلف ونحن نرفض التفكير ونستحرم التساؤل ونستسهل الرفض الجاهل للعلم الحديث المثبت، نتواجه فيما بيننا بالصغير الحسير من الأمور، نغمس عقولنا في الملذات الشرعية، نغيِّب المنطق لمصلحة الأسطورة، ونرفض، نرفض تماماً أن نقف في يوم في مواجهة أنفسنا. إننا نحن... نحن الإسفنجة.
مقالات
إسفنج
18-02-2013