نظرياً، يعتبر الدوّار تنظيماً مرورياً أكثر تقدماً من الإشارة الضوئية باعتبار أنه أكثر سلاسة لحركة المركبات التي لن يحتاج قادتها إلى أن ينتظروا تحول الإشارة من الأحمر إلى الأخضر للتحرك، إنما تعتمد حركتهم على "حكمتهم" وتقديرهم عندما يصبح الطريق متاحاً للمرور مع مراعاة الأولوية للمركبات الأخرى طبعا.

Ad

هذه النظرية أثبتت فشلها الذريع في دولة الكويت المجيدة، وجولة سريعة في أوقات الذروة على الدوارات وبالأخص تلك التي أقيمت على أنقاض إشارات ضوئية سابقة، ستثبت لمن في قلبه شك أن الدوارات الكويتية قد صارت بؤراً من بؤر الازدحام والاختناق المروري، والسبب الرئيس في ذلك هو أن كل السيارات تشرع في اقتحامها من جميع الجهات دون أي حكمة أو تقدير أو مراعاة للأولوية، والشاطر هو من يخلص نفسه!

هذه الملاحظة، وغيرها الكثير من الملاحظات المرورية، أثبتت لي أن أزمة المرور عندنا هي أزمة ثقافة قبل أن تكون أزمة منشآت قاصرة أو تخطيط مروري ضعيف في المقام الأول، وأعني بذلك أنها أزمة فهم وإدراك واحترام لمقتضيات ومتطلبات الحركة المرورية كثقافة ونشاط يقوم على التعاونية الجماعية بين قادة المركبات لا على الشخصانية والفردية والتنافسية.

 وهذه الأزمة في الحقيقة لم تعد تستثني فئة من فئات قادة المركبات، حيث صرنا نراها وقد أصابت المواطن والمقيم والوافد، فصار الجميع يشاركون في تعميق الأزمة يوميا على الطرقات، إما لانعدام هذه الثقافة لديهم مطلقاً، أو تجاهلها تماما وكأن الجميع قد صاروا يرفعون على الطرقات شعار "إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب"!

بل إن أزمة الثقافة المرورية قد وصلت إلى شرطة المرور أنفسهم، حيث شاهدت بنفسي ولمرات عديدة كيف أنهم، وعبر تصرفات غير محسوبة العواقب، يساهمون في تكريس الازدحام المروري وتعقيده، كأن يقوموا بإشعال أنوار التنبيه بلا داع عند توقفهم على جانب الطريق فتتباطأ حركة المركبات ويتشكل الازدحام، أو أن يقوموا بعمل نقاط تفتيش في أماكن غريبة مما يؤدي إلى نشوب الازدحام واختناق الطرق، وغير ذلك من الأمثلة!

الأزمة المرورية عندنا هي أزمة ثقافة لم تبتدئ أبداً بقول أحد أكبر مسؤولي وزارة الداخلية بأن "الزحمة نعمة" كتبرير لعجز وزارة الداخلية عن فعل شيء، ولكنها في الواقع جزء لا يمكن فصله من أزمتنا الثقافية العامة التي تعصف بالبلاد في كل مفاصلها.

 الأزمة المرورية هي جزء من أزمتنا الكبرى التي تحوي في طياتها أزمة ثقافة المواطنة، وأزمة ثقافة الإدارة الحكومية الصحيحة، وأزمة ثقافة التنمية والتطوير المجتمعي، وأزمة ثقافة احترام الوقت والموارد والفرد المكون الأساس للمجتمع، وأزمة ثقافة احترام الآخر والتعايش معه، وأزمة ثقافة الحق العام، وأزمة ثقافة احترام القانون والدولة، وغيرها من الأزمات المرتبطة والمتداخلة والمشدودة جميعا بحبل أزمة الأزمات ألا وهي الأزمة السياسية.

الأزمة المرورية، وكل الأزمات الأخرى، لا يمكن علاجها ما لم تكن هناك رؤية استراتيجية قيادية لدى السلطة ترى هذه الأزمات كأجزاء من الخلل الكبير العظيم المتشابك الذي أصاب الدولة بأسرها فتعمل على التصدي له، أعني الخلل العظيم، على مستواه الضخم بقرارات تغييرية نهضوية كبرى، وأما الاستغراق في عبث المعالجات الجزئية فلن يزيد الطين إلا بلة والمشكلة تعقيداً وتشابكاً والكويت انحداراً وتهالكاً.