نشر موسى بيرلمان كتاب ابن كمونة «تنقيح الأبحاث للملل الثلاث» في نصه العربي في كاليفورنيا عام 1967 للمرة الأولى، بعد تحقيقه في أربع نسخ: نسخة طهران، نسخة اسطنبول، ونسختان مكتوبتان بحروف عبرية، بالإضافة إلى حواشي ابن المحرومة. كذلك ترجمه إلى الإنكليزية، وعن هذه النشرة صدرت طبعات مصورة في القاهر وبيروت وطهران.
جاء في مفتتح الكتاب على لسان ابن كمونة: «جرت مفاوضات أن عملت هذه المقالة في «تنقيح الأبحاث للملل الثلاث»، أعني ملة اليهود، وملّة النصارى، وملة المسلمين. فذكرت فيها أولاً أحوال النبوات جملة، ثم ذكرت ما يختص اليهودية، وتلوتها بأوسطها، وهي الملة النصرانية، وحتمت بآخرها، وهي الملة الإسلامية. وحكيت عن كل واحدة من هذه الملل أصول معتقدها سوى التفاريع لتعذر استقصائها، وأردفت ذلك بحكاية أدلة أربابها على صحة النبي الآتي بها. وأوردت ما وجه من المطاعن عليها، وما ذكر من الأجوبة عنها، منبهاً على مواقع الأنظار فيها، ومميزاً ما يصلح لأن يعول عليه عما لا يصلح من تلك الأجوبة لذلك. ولم أمل في شيء من ذلك مع الهوى، ولا تعرضت لترجيح ملة على أخرى».في نسخة جديدة من الكتاب بتحقيقه وتقديمه، يعود سعيد الغانمي إلى المصادر التي استقى منها ابن كمونة، بما فيها تلك التي لم يسمها، مثل «دلائل الحائرين» لموسى بن ميمون، و{المباحث الشرقية» للرازي. يقول الغانمي في تقديمه المسهب، إنه خلافاً لنشرات سابقة اعتمدت طبعة بيرلمان، تريد هذه النشرة أن تكشف عن مقدار سماحة الثقافة الإسلامية وثقتها بنفسها، في ظرف من أصعب ظروف انحطاطها وتدهورها، فحين كانت حفلات الإحراق تجري في محاكم التفتيش على قدم وساق، كان علماء الأمة الإسلامية يدافعون عن الفكر والمفكرين، بمن فيهم من يختلفون معهم دينياً، ويطفئون الحرائق التي تشعلها العامة.تراث إسلاميابن كمونة فيلسوف يهودي، عاش في بغداد في أواخر العصر العباسي. وقد تأثر بالتراث السلامي، حتى قيل إنه أسلم. وكانت من نتائج تفاعله مع التراث الإسلامي أنه كتب عدداً من الأعمال الفلسفية والكلامية، التي يتضح فيها أثر المدرسة الأشعرية، لا سيما تصورها أعمال فخر الدين الرازي. وفي العصر المغولي، أراد ابن كمونة أن يؤلف كتابات في الدراسة المقارنة بين الأديان، وقد أطلق على عمله اسم «تنقيح الأبحاث للملل الثلاث». لكن العامة في بغداد خرجوا في تظاهرات ضدّه، مطالبين بإحراق الكتاب ومؤلفه. حينئذ اضطّر الفقهاء والعلماء في المدرسة المستنصرية إلى الإيعاز بإخفاء ابن كمونة في تابوت بدعوى موته، وتهريبه إلى الحلّة، وإسكاتاً للعامة أعلنوا أنهم سيحرقونه في الغد. بعد سبعة قرون من ذلك التاريخ، ما زال السؤال قائماً بحسب تقديم سعيد الغانمي: هل ينبغي إحراق ابن كمونة؟ أم ينبغي إبقاؤه في تابوته، مرة أخرى زاعمين أنه مات وشبع موتاً.وابن كمونة فيلسوف حيّر كثيرين، والحيرة هذه لم تنتج من التنقيح وحسب، فهو صاحب الشبهات، المسائل التي عرفت باسمه ونسبت إليه، وتداولها الفلاسفة الإيرانيون قروناً من الزمن، ولا يزالون يقدمون إجابات عنها.كان ابن كمّونة معروفاً بكونه يهودي الديانة، إسلامي الثقافة. فابن الفوطي يسميه «الإسرائيلي البغدادي الحكيم الأديب»، وسمعته في أوساط العلماء المسلمين على درجة عالية من الرفعة، فقد «قصده الناس للاقتباس من فوائده». وخلافاً لمعظم المفكرين الإسلاميين الذين عاشوا في أواخر العصر العباسي وبداية العصر المغولي، ممن تبنّوا الاعتزال صراحة، مثل الزمخشري وابن أبي الحديد، أو تبنوه من خلال التشيع الإثني عشري، مثل نصر الدين الطوسي أو العلامة الحلي، يقف ابن كمونة على الطرف الأقصى ويتبنّى الأشعرية موقفاً فكرياً. على أن هذا الموقف من الأشعرية لا يعني التطابق معها دائماً، فربما وجدت تفصيلات معينة يختلف بها مع الأشاعرة. في هذا السياق، يقول سعيد الغانمي إن ابن كمونة يتفق مع الأشاعرة بقدر ما يتعلق الأمر بالموقف العام من الميتافيزيقا أو ما وراء الطبيعة، وكثيراً ما يتحفظ على آرائهم في المواقف المتعلقة بالمعاملات الاجتماعية والفقهية.ويتضح تأثر ابن كمونة بالأشعرية، لا سيما كما تقدمها مدرسة الإمام فخر الدين الرازي، في كونه كرّس عملاً كاملاً لمناقشة كتاب «المعالم» لفخر الدين الرازي، والرد على أسئلة نجم الدين الكاتبي في اعتراضاته على الكتاب، بل أن غالبية القضايا المطروحة في كتاب «الأبحاث» بما فيها الشبهات التي يثيرها في ما يتعلق بالإسلام، هي من الموضوعات التي أثارها الإمام الرازي في كتبه مثل «المعالم» و{المحصل» و{المطالب العالية».لم تكن مواقف ابن كمونة النقدية المهمة من بنات أفكاره، بل هو استمدها من فيلسوف يهودي آخر في رحاب العالم الإسلامي، وهو موسى بن ميمون. يشير الغانمي، إلى أن ابن كمونة لم يذكر ابن ميمون صراحة في أي من أعماله، بل اكتفى بالإشارة إليه تحت عنوان «أحد الفضلاء»، كما فعل في كتابه «تنقيح الأبحاث». واشتهر ابن كمونة ببعض الآراء والشكوك التي أثارها في بحوثه ومن بينها شبهة دعيت في محافل النظار المتأخرين «شبهة ابن كمونة» وصار حلها ومناقشتها الشغل الشاغل لهم وكتبت عنها رسائل غير قليلة. حتى إن الشيرازي كتب رسالة في نقضها. والظاهر أن آراء ابن كمونة في كتاب «الأبحاث» وغيره أثارت سخط الساخطين فعني غير واحد بمناقشتها والرد عليه، في «الدر المنضود في رد فيلسوف اليهود» لمظفر الدين البغدادي المعروف بابن الساعاتي، والكتاب المسمي «نهوض حثيث النهود إلى حوض خبيث اليهود» للشيخ زين الدين بن محمد الملطي... وممن عني أيضاً بالرد على ابن كمونة في «الأبحاث» أبو الحسن بن إبراهيم المعروف بابن محرومة أو محروقة المارديني، وهو يورد نص أقوال ابن كمونة ثم يشرع بتفنيدها.
توابل - ثقافات
«تنقيح الأبحاث للملل الثلاث» لابن كمونة... دراسة مقارنة بين الأديان
14-07-2013