بعدما أبدع الشيخ سيد مكاوي في فن «الدور» وعرف النجاح بعدما اعتمد كأحد المطربين في الإذاعة المصرية، بدأ يفكر جدياً في الخطوة المقبلة التي سيقدم عليها ليزيد من خطواته رسوخاً، وكان اللجوء إلى الشيخ سيد درويش بمثابة فاتحة الخير على الشيخ مكاوي، فما إن قدم الدور الأخير «أنا عشقت» حتى التفت إليه المسؤولون في الإذاعة، الذين شعروا بمواهب «مكاوي» الاستثنائية في مجالي التلحين والغناء.

Ad

قرر رئيس الإذاعة، آنذاك، الأستاذ محمد حسن الشجاعي، استدعاء الشيخ سيد، ولم يتأخر الأخير كثيراً عن تلبية طلب رئيس الإذاعة، بل استجاب على الفور، وفي ذهنه أن الشجاعي سيحدثه عن أغانيه في الفترة المقبلة، وعندما جلس أمام الشجاعي بحضور وكيل الإذاعة عبد الحميد يونس، دار الحوار:

= الله يفتح عليك يا شيخ سيد... أداءك في الدور الأخير للشيخ سيد درويش كان عالي أوي.

* أصل أنا رياضي قديم..غاوي الأدوار العليا.

= (ضاحكاً) وإحنا يا سيدي مش عايزين نحرمك من الأدوار العليا... وهنخليك فوق على طول.

* أنا شامم ريحة خبر كويس.

= ما شاء الله. دا مش بس صوتك وموسيقتك اللي قوية... دا كمان مناخيرك قوية، فعلاً في خبر كويس. حاجة أنت كنت بتلح عليها من فترة... بس الظروف ما كانتش مناسبة، بس الفرصة جت لك. يلا ورينا الهمة والدرر.

* تقصد حضرتك يعني أني ممكن...

= أيوا يا شيخ سيد... عندك فرصة تقدم أغنية خاصة بك.

* أنا ممتن لحضراتكم جداً... مش عارف أعبر أزاي عن شكري لكم.. بس أنا لي طلب... اعتبره رجاء مش طلب.

= خير يا شيخ سيد... عايز تغني لون معين.

* لا أنا بعون الله قادر على غناء حتى عناوين جريدة الأهرام لو طلبتم.

= دي ثقة حلوة يا شيخ... نتمنى أنها تظهر في شغلك..أمال إيه طلبك.

* عايز تكون أول أغنية من ألحاني. وأنا والحمد لله قادر على ذلك... ولكم أن تحكموا على التجربة.

= أيوا يا شيخ سيد بس أنت ماسبقش لك أنك لحنت... وهتبقى مغامرة مش محسوبة.

* أرجوك خللي التجربة هي اللي تحكم.

بعد تردد طويل وشد وجذب وافقت اللجنة على أن يقوم الشيخ سيد مكاوي بتلحين أول أغنية له في الإذاعة الرسمية للحكومة المصرية، لتبدأ الخطوة الأهم، وهي العثور على كلمات مناسبة يقوم بتلحينها، وهو يعرف صعوبة هذه المهمة، فمن الصعب أن يذهب إلى شاعر كبير ويطلب منه أغنية، حتماً سيرفض لأنه في بداية مشواره، وهذا هو المهم، وليس الأجر العالي الذي سيتقاضاه.

بعد الكم الكبير الذي استمع إليه واستوعبه تماماً لدرجة الذوبان فيه، وبعدما أعاد تقديم جزء كبير منه بصوته عبر الإذاعة، توج الشيخ سيد مكاوي، ربما من دون أن يدري، من نفسه باعثاً لتراث الموسيقى العربية، وكنوزها المخفية، وتوضيح الكثير من معالمها المخفية والمختلطة على الكثيرين، سواء من الجمهور، أو حتى من المتخصصين، فاستطاع أن يكشف على عكس ما يشاع بأن الموسيقى قبل سيد درويش لم تكن عربية، وأنها كانت تركية، مؤكداً أنها كانت عربية تماماً، لكن الموسيقيين كانوا يقدمون ألحاناً لإرضاء الحكام حيث كانت تركيا بلد الخلافة ومسيطرة على كثير من الدول العربية.

 فكان الموسيقيون يسعون لإرضاء الحكام بتقديم بعض الموسيقى والأغاني التركية، لكن سيد درويش جاء وغنى للشارع والغلابة والفقراء والطوائف المهنية، وهو ما لم يكن يتصوره أحد حيث قام بتلحين الكلمات العادية الدارجة التي يقولها الناس في الشارع فيما بينهم مثل أغاني «شد الحزام على وسطك»، و{قرأ يا شيخ قبعة»، و{العربجية»، و{الشيالين»، وغيرها من ألحان نزل بها إلى الشوارع والحواري.

تجربة سيد درويش كانت في جوهرها مشروع سيد مكاوي نفسه، بعدما وجد نفسه يسير على نفس درب سيد درويش، ليس لمجرد الإعجاب به وما قدمه للموسيقى العربية، بل لأنه وجد في نفسه كثير من هذه السمات التي خرج من خلالها الشيخ درويش، فقرر السير على خطى عميد الموسيقى العربية في القرن العشرين سيد الطرب الشيخ درويش.

تجلت عبقرية سيد مكاوي في شدة بساطته وعمق مصريته التي استمدها من المدرستين الموسيقيتين اللتين انتمى إليهما ونهل من علمهما وهما مدرسة «سيد درويش» التعبيرية، ومدرسة «زكريا أحمد» التطريبية، فغنى كثيراً من ألحانهما، سواء في جلساته الخاصة، أو عبر الإذاعة، أو حتى في الحفلات والأفراح، ولم ينكر على الإطلاق فضل سيد درويش وزكريا أحمد على الموسيقى العربية وإن لم يعاصر الأول، إلا انه ارتبط بصداقة كبيرة مع الثاني.

شاعر مكسور

صعوبة البحث عن كلمات أول أغنية يقدمها للإذاعة، لم ينسه أن ينقل فرحته بهذا الانتصار الجديد وهذه الخطوة المهمة في حياته إلى شريكة الجهاد والفقر وصناعة المستقبل معه، السيدة والدته، التي تهللت فرحاً على رغم عدم إدراكها بشكل كاف أهمية وخطورة الخطوة بالنسبة إلى الشيخ سيد، فإنها عرفت أهميتها من خلال قلقه وصعوبة البحث عمن يكتب له الكلمات، وطرق عدداً من الأبواب التي وجدها موصدة، لأسباب مختلفة، حتى جاءه صديقه محمود رأفت يزف له بشرى:

* بس أنا أول مرة اسمع اسم الشاعر دا.

= عايز تفهمني أنك تعرف أسامي كل الشعرا في مصر.

* مش القصد... بس يعني لو كان شاعر معروف وله محصول من الشعر. كنا على الأقل سمعنا اسمه هنا ولا هنا.

= انت بتتكلم أزاي... دا قالي بعضمة لسانه إن الإذاعة بتجري وراه وشركات الأسطوانات... بس هو اللي زاهد في موضوع الشهرة... وما كنش راضي يديك أغنية لولا أني اتحايلت عليه.

* أهو الكلام دا يبين أنه كداب.

= ازاي.. علشان اللسان كله لحمة ما فيهوش ولا عضمة حتى لو أد كدا.. وبمناسبة اللسان إيه رأيك يا فللي في أكلة مخ ولسان وجوهرة، عين العجل، وممبار وحلويات... أما في واحد في الحسين جنب خان الخليلي بس اكتشاف.. اسمه عم سيد... بس إيه ما تقولش لعدوك عليه.

= يا أخي احنا في إيه ولا إيه.

* ويعني هي قلة الأكل اللي هتجيب لنا كلمات الأغنية. يلا بنا بس وربك يفرجها.

أحضر محمود رأفت الشاعر الذي تحدث إلى بيت الشيخ سيد، فقامت والدة الشيخ سيد بإكرام «الضيف» بشكل مبالغ فيه، لإحساسها بأن مستقبل ابنها متوقف على بضع كلمات من هذا الرجل، وبعد الحفاوة والترحيب، بدأت جلسة العمل، فكانت عبارة عن وصلتين، الأولى مديح في نفسه وأشعاره، وكيف أنه يكتب الشعر منذ زمن بعيد، ولأنه يكتب «الشعر للشعر» على طريقة «الفن للفن» لم يلتفت إلى النشر أو الشهرة أو حتى تقديم أشعاره للمطربين والمطربات لغنائها في الإذاعة، والوصلة الثانية إلقاء عدد من هذه الأشعار التي لم يجد فيها الشيخ سيد ما يصلح لأن يقوم بتلحينه وغنائه:

* بس يا أستاذ أنا مش لاقي حاجة من اللي أنت قلته دا تنفع تتغنى.

= أزاي يا شيخ سيد... أنا والله أغلب الأشعار اللي قلتهالك دي... ملحنين كبار. سمعوها وطلبوا يلحنوها وأنا اللي رفضت.

* ورفضت ليه يا أستاذنا.

= لأني مش غاوي شهرة.

* أمال إيه اللي خلاك وافقت تديني أنا الكلمات دي... رغم أني ملحن صغير ولسه ببتدي.

= أيواااا... قلتلي ليه؟ أولا لأنك زي ما بتقول صغير لسه بتبتدي... وأنا أحب أساعد الملحنين الجداد وأقف جنبهم. الأمر التاني من الكلام اللي سمعته عنك وعن نبوغك من الأخ محمود، أما بقى الشيء اللي فرق معايا أوي... خلاني أوافق اكتر. هو أني ذقت طبيخ الست أم سيد... شيء فاخر... الله أكبر.

انتهى اللقاء بعدما أعطى الشاعر كلمات جديدة للشيخ سيد، وجد أنه يمكن أن يلحنها، ولم يغادر محمود رأفت بيت الشيخ سيد حتى تأكد أنه حفظ الكلمات تماماً، ثم أمضى الأخير بقية الليل حتى الصباح في تلحين كلمات الأغنية، وفي اليوم التالي ذهب بها إلى رئيس الإذاعة الذي شكل لجنة لاستماع الأغنية والحكم عليها. غير أن حكمهم جاء صادماً للشيخ سيد، حيث أكدوا له أن كلمات الأغنية غير موزونة، فالوزن مكسور في أغلب أبياتها، وبالتالي لن تصلح للغناء، على رغم الجهد الكبير الذي بذله في تلحينها.

لم يكن رفض الأغنية هو القرار الوحيد الذي اتخذته اللجنة، بل قرروا على الفور أن يبحث عن كلمات أخرى، ويقوم بتلحينها ملحن آخر غير الشيخ سيد، على أن يتفرغ هو للغناء فحسب.

عاد الشيخ سيد إلى بيته حزيناً مهموماً، ليس فقط لرفض الأغنية، لكن الأهم هو حرمانه من فرصة التلحين التي ربما لن تعوض في المستقبل، وأن هذا بمثابة الحكم عليه بالفشل كملحن، لترى والدته دموعه للمرة الأولى لإحساسه بأن سوء الحظ يطارده، فلم تملك شيئاً سوى أن تبكي إلى جواره، وترفع أكفها بالدعاء على «من كان السبب».

في المساء عاد الشاعر صاحب الكلمات ليطمئن على كلماته وإذا ما كانت الإذاعة قبلتها، لو حدث، يعرف متى سيأخذ أجره عن الأغنية، وما إن طرق الباب وفتحت له والدة سيد، حتى قابلته بعاصفة من التوبيخ:

= مش حرام عليك... ربنا ينتقم منك زي ما ضيعت ابني

- أنا يا حاجة... ليه بس؟

= تديله أغنية مش موزونة ومكسورة كمان... أنت كانت أيدك هتتشل لما كنت توزنها قبل ما تديهاله... منك لله يا بعيد.

وجم الشاعر ولم يعرف كيف يرد على والدة سيد، وانصرف مسرعاً، وهو يفكر أن يلتقي  بالشيخ سيد، حيث التفاهم معه أفضل، ففكر أن ينتظره في الشارع أسفل شباك حجرته، لعله يسمع صوته أو يسمع عزفه على العود فينادي عليه، لكن فجأة أطلت والدة الشيخ سيد من الشباك، فوجدت الشاعر ينتظر أسفله، فاتجهت إلى الداخل مسرعة وعادت وفي يديها دلو ممتلئ بالمياه، وصبته فوق رأس الشاعر، فجرى وهي تشيعه باللعنات.

اللحن الأول

في اللقاء الأسبوعي «لشلة السمر والفن» التقى الشيخ سيد بالملحن الشاب عبد العظيم عبد الحق، فقص عليه ما حدث من أمر الأغنية وتلحينها، ففاجأه عبد العظيم عبد الحق:

= تاهت ولقيناها.

* مش فاهم.

= أفهمك وأمري إلى الله. أنا عندي كلمات حلوة أوي لأغنية دينية أنا لسه ملحنها.

* دينية!!

= أيوا دينية... ما فيش أحسن من أنك تبدأ بأغنية دينية... مش عاجبك.

* أبدا والله... دا أنا انبسطت لأنها كانت أمنية عندي أني أبدأ بأغنية دينية... واسمها إيه بقى؟

 = اسمها «محمد».

* عليه الصلاة وأزكي السلام.

عرض الشيخ سيد الأغنية على لجنة إجازة الأغاني بالإذاعة فوافقت على الفور على الكلمات واللحن، وحددوا موعداً في اليوم التالي لإذاعة الأغنية على الهواء مباشرة بعد استماعهم إلى بروفة بالفرقة الموسيقية.

في اليوم التالي فيما كان يقف الشيخ سيد أمام ميكروفون الإذاعة يستعد مع الفرقة في انتظار إشارة البدء، كانت والدته وأشقاؤه، وكل أهالي حارة «سوق الاثنين» في حي الناصرية، يجلسون إلى الراديو في انتظار أن يأتيهم صوت الشيخ سيد عبر الأثير، بأول أغنية خاصة به في الإذاعة الرسمية:

هنا الإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية... نستمع الآن إلى أغنية «محمد نبينا» كلمات وألحان عبد العظيم عبد الحق، غناء سيد مكاوي:

محمد نبينا.. سراج الأنام

شفيع البرايا.. في يوم الزحام

رسول السلامة.. نبي البرية   

عليه الصلاة.. وأزكي السلام

بقدرة إلهه.. لقي الجذع مال

ومن شوق محيي.. بهي الجمال

ومن بين صوابعه.. سال الجمال

وسبح في كفه.. الحجر والرمال

في وجهه كانت.. تشيع المحبة

صلوا عليه صلوا

عليه الصلاة.. وأزكى السلام

 محمد نبينا.. سراج الأنام

شفيع البرايا.. في يوم الزحام

رسول السلامة.. نبي البرية   

عليه الصلاة.. وأزكي السلام

مشي في طريقة.. يفادي الصعاب

وجاهد وبيّن.. طريق الصواب

ونور عقولنا.. بهدي الكتاب

وأعلن وناد.. إن يوم الحساب

وكان الرسول.. اللي عليت صفاته

صلوا عليه صلوا

عليه الصلاة وأزكى السلام

محمد نبينا.. سراج الأنام

شفيع البرايا.. في يوم الزحام

رسول السلامة.. نبي البرية  

عليه الصلاة وأزكي السلام

****

نجحت الأغنية بشكل كبير، ولفت الشيخ سيد الأنظار منذ اللحظة الأولى، ليس فقط بين أهله وأحبابه من سكان أهالي منطقتي «الناصرية» و{عابدين»، بل على مستوى القطر كله، وما إن تناول أول أجر له وهو 20 جنيهاً، حتى قام بتقسيمها على الفور بينه وبين عبد العظيم عبد الحق وأعضاء الفرقة الموسيقية الذين عزفوا معها اللحن. أما نصيبه هو، فلم ينله منه شيء، فقد أعطاه بالكامل لوالدته.

اختبار من السماء

بدأ الشيخ سيد على الفور التفكير في الأغنية التالية، وكم تمنى أن تمنحه اللجنة فرصة أخرى ليقدم عملاً من ألحانه، غير أن ردهم كان حازماً:

= ما تضيعش النجاح اللي أنت حققته في أغنية «محمد»... شوف لحن تاني.

* ما هو زي ما بيقول المثل... «طباخ السم بيدوقه» وأنا بعمل مزيكا متحرم عليا ألحن لنفسي.

= المسألة مش متحرم ومتحلل. في قواعد احنا ما نقدرش نكسرها.

* لكن تقدروا تكسروا فيا أنا.

= بلاش الحساسية دي يا أستاذ سيد... وعموماً نوعدك ننظر في أمر الموضوع دا تاني... بس المهم دلوقت تلحق تقدم أغنية تانية بعد «محمد» قبل الناس ما تنساك.

* أيوا بس أجيبها منين.

= أسمع. أنا عرفت إن الأستاذ أحمد صدقي عنده لحن حلو أوي... ما تكلمه.

جاءت الأغنية الثانية للشيخ سيد من ألحان أحمد صدقي، وهي أغنية وطنية لتونس الشقيقة بعنوان «يا تونس الخضرا» لتحقق نجاحاً جديداً للشيخ سيد، زاد من انتباه كل العاملين في الوسط الموسيقي به، من مطربين أو ملحنين أو حتى شعراء أغنية، ليختصر عليه طريقاً طويلاًَ.

على رغم النجاح الذي حققه الشيخ سيد لم ينقطع عن غناء ما سمي بـ «المولد» وهو نوع من الغناء الصوفي الخاص بالموالد والاحتفالات الدينية، فيحرص على غنائه في موالد: السيدة زينب، سيدنا الحسين، السيدة نفيسة العلم، الإمام الشافعي، السيد أحمد البدوي، سيدي إبراهيم الدسوقي، رضي الله عنهم أجمعين، وعبر الأحياء والمقاهي الشعبية التي تقام فيها «الموالد» السنوية بمشاركة مشاهير فن الموال، ما جعله يتقن فن أداء الموال، بل وتفنن فيه، حتى تشبعت روحه بالألحان الشعبية.

لم يكن الشيخ سيد يؤدي المولد من باب «الاسترزاق» أو البحث عن عمل، لكنه يؤديه من باب الحب، الحب لآل بيت رسول الله؛ (صلى الله عليه وسلم)، والحب لهذا النوع من الغناء، فقد تعلم الكثير من أصول هذا الغناء على أيدي من غنوه والمؤدين للتواشيح الدينية، مما ساعده على سبر أغوار المقامات الموسيقية العربية، خصوصاً من خلال علاقته الوطيدة بالشيخ محمد سلامة والشيخ عكاشة، فضلا عن تتلمذه على يد علي محمود وإبراهيم الفران، أشهر شخصيتين في أداء التواشيح، وزاد اتقانه لها من خلال قراءة القرآن، وقربه من فضيلة الشيخ محمد رفعت، وظل وفياً يتردد عليه حتى بعدما راح صوته في العام 1943، بسبب إصابته بمرض أطلقوا عليه «الزغطة»، سرطان الحنجرة، فتوقف عن قراءة القرآن الكريم، وعلى رغم أنه لم يكن يملك تكاليف علاجه، فإنه رفض قبول أي معونة من ملك مصر، أو أي من ملوك الدول العربية والإسلامية، ولما عرف الشعب المصري ذلك، قرروا عمل اكتتاب وجمع تبرعات لإجراء الشيخ رفعت الجراحة، إلا أنه رفض أيضاً مبرراً ذلك بقوله:

= لقد وهبني الله هذا الصوت... وهو الذي منعه عني، فإذا أراد أن يعيده لي سيعيده بقدرته وليس بأموال الدنيا كلها.

ليظل الشيخ على حاله حتى رحل في التاسع من مايو عام 1950، ليفجع الشيخ سيد مكاوي برحيله، ويدخل في حالة من الاكتئاب، ورفض أن يقدم ألحاناً جديدة للإذاعة من ألحان غيره، مكتفياً بتقديم المزيد من الأعمال التراثية لكبار المطربين والموسيقيين، ولم يخرجه من هذه الحال إلا حدث كبير.   

فما إن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها حتى ثارت الحركة الوطنية مطالبة بإلغاء معاهدة 1936، وتحقيق الاستقلال، فما كان من حكومة الوفد إلا أن استجابت لهذا المطلب الشعبي‏،‏ وفي الثامن من أكتوبر‏1951‏ أعلن رئيس الوزراء مصطفى النحاس إلغاء المعاهدة أمام مجلس النواب:

= من أجل مصر وافقت على معاهدة 1936، ومن أجل مصر قررت إلغاء معاهدة 1936.

وجرت في النهر مياه كثيرة، وصولاً إلى ليلة 23 يوليو 1952، فقد بزغ في الأفق فجر جديد.

(البقية في الحلقة المقبلة)