سعد الياسري في «كشاعر سعيد... كطاغية يبتسم»

نشر في 06-05-2013 | 00:01
آخر تحديث 06-05-2013 | 00:01
No Image Caption
وجه يبحث عن بياضه في المرآة السوداء

حيث يبتسم الطغاة لا شاعر تعرف الابتسامة طريقها إلى وجهه إلاّ إذا كان جبينه بعضاً من بِلاط البَلاط. وعليه، فإنّ الشعراء، قبل غيرهم، يواجهون الابتسامة الحرام على وجه الطاغي بكثير من اللغة ذات الوجع الحلال والجمال الحلال.
ماذا يريد الشاعر العراقي سعد الياسري من عنوان جديده {كشاعر سعيد... كطاغية يبتسم}!؟
للتأويل أبواب متعدّدة، غير أنّ أجمل ما في العنوان {كشاعر سعيد... كطاغية يبتسم}!؟ أنّه يجمع الشاعر والطاغية ولو في مكان افتراضي أو مجازيّ، وهو ساحة التشبيه. وبعد قراءة كتاب الشاعر العراقي سعد الياسري لا يتأخّر القارئ ليكتشف أنّ {الشاعر} يتّسع لسعد الياسري بينما {الطاغية} يتّسع لكلّ طغاة الأرض، أمّا السعادة فصفة في قفص الأحلام لأنّ الواقع طارَدَها بقطيع من الظلال السوداء.

تشرب لغة الياسري فنجان قهوتها الأوّل مع الحبّ. وترتدي المرأة حضورها من النصّ الأوّل، وفيه:

{... والآن الفحي صدري – جهة القلب أعني – بجناحيكِ اللاهبَين

 لاااا؛ اللّعنة!

دون لَعْقٍ.. فقط بالجناحين..

الآن انفخي في رمادي كي تشهدي اللحظة...

... وحيداً – تقريباً – أجلس في قلبي برفقة انتظارك}.

يمضي الشاعر إلى أنثاه التي لا تقبل اللّبس فهي كائن واضح من لحم ودم، ولا تحمل في جسدها جغرافية الوطن كما في الكثير من الشعر الحديث، لا سيّما الذي يكتبه شعراء الأوطان التي تثأر من جمالها لعنة النار. المرأة في نصّ الياسري تبادر وتعصف جهة القلب، وجناحاها لا يصادران المساحة المخصّصة لفمها، وهي حين تنفخ في رماد من تحبّ تبعثه حيّاً من حياة إلى حياة أجمل أو من موت شهيّ إلى موت أشهى، وتستطيع أن تضع إصبعها على بَشرة الزمن الطازج، وأن تشهد اللحظة.

ويتوفّق الياسري بالجملة التي تبدو مفردة أو مستقلّة وإن أتت في سياق نصّ: {... والوردة حنانها المعروف خطأ بـ(الرحيق)} فكم تكتفي هذه العبارة بذاتها، والدليل أنّ ما أتى قبلها أو بعدها في النصّ لا يرقى إليها تعبيراً. وصحيح أنّ المرأة الياسريّة هي إنسان حيّ يرزق، وليست أرضاً، لكنّها تخرج من ذاتها إلى الطبيعة وتمنحها أن تكون كما ينبغي أن تكون:

{بارتجافك الأسطوري كنت تمنحين:

البحر رغوته والموجة متعتها،

الضباب غموضه والريح عنفوانها

البتولا موقفها والزّنزلخت صموده}.

والياسري يوسع امرأته لتحتضن كلّ ما يشدّه إليه بخيوط الحنين، لتمسي ابتسامتها ذات بياض يضمّ بكثافته الإنسان والأرض والدّين، فهو يراها امرأة حقيقيّة غير أنّه يعيشها بكلّ ذاكرته الوجوديّة التي لا يغادرها البدويّ وإن غادر الخيمة والبادية ولا تسقط عن شرفتها الترنيمة الدينيّة:

{الابتسامة فاحشة البياض...

تلك التي تصرع السّأم؛

كما يصرع البدويّ عَوْزَه بالأمل.

ابتسامة أشبه بطقس ديني ذي مفتتح طويل ومُسالم

ترنيمة من أجل دوام النشوة واعتياد الكسل}.

في نصّ {أيّها الغراب، أعرْني منقارك!} يحاول الياسري أن يرى وجهه في مرآة سوداء، ويظهر ذا مشتهى إلى برودة لم يعرفها في ملامحه وإلى ما يفقأ بحدّة، ويستدرك متراجعاً، مضحّياً بعينيه اللتين لا ذنب لهما سوى أنّهما تنقلان بشاعة ما تصطادانه إليه دون أن تكونا مشاركتين في صناعتها:

{أيّها الغراب

ألبسْني ملامح وجهك البارد،

أعرْني منقارك النافذ هذا!

لا لا، فافعلْها أنتَ...

افقأْ عينيَّ بإتقان}.

وفي الانتقال من نصّ إلى آخر يجد القارئ كلاماً منتمياً إلى الدهشة، مكتوباً بنَفَس شاعري لافت، وكلاماً آخر منتمياً إلى العاديّ. وفي نصّ {سأحبّك يا بغداد... سأشتمك بمرارة} يبني سعد الياسري بناءً أدبيّاً أنيقاً مستثمراً صيغة {الحال}، والتشبيه بشكل مركّز. وليست {الأحوال} الواردة بالتتالي سوى محاولة اختصار لذات الكاتب: {مذعوراً – حانقاً – دافقاً – بسيطاً  - حزيناً – خليعاً – راجفاً – عارياً – معقولاً}... وليست التشابيه سوى اختصار لبغداد الواقع، لبغداد الإنسان المتدثّر برماده، ولبغداد التراب الموجوع إلى ما بعد الموت:

{سأحبّكِ

... حانقاً، كثوريّ شهد ثراء رفاقه

... راجفاً، كالطيّبين قبل الضغط على الزّناد

 ... ناجزاً، كمسمار في تابوت

صارخاً كآخر جنديّ في الكتيبة المبادة}.

وإذا كان من تعارض يُذكر بين التشابيه فمردُّه إلى رغبة الياسري في اللجوء إلى الأضداد ربّما لإظهار جدليّة الفرح والحزن، أو الحياة والموت حتّى في الإنسان المنكوب، وإلاّ فماذا يبرّر وجود أب في مقبرة عائليّة ونهدَيْن يتحدّيان الأسر في القصيدة نفسها:

{حزيناً، كأب في مقبرة عائليّة

... نافراً، كنهدين في إزار من السّتان الأسود}.

يشد على جروحه

يحضر سعد الياسري في نصوصه أكثر ممّا تحضر المواضيع، أو بمعنى آخر تعبر المواضيع صاحبها إلى جملته، لأنّه يشدّ على جروحه لتعطيه المعاني، فـ{أناه} حاضرة سواء باللفظة المباشرة كما في نصّ {هذا أنا} أو من خلال طيفها الذي يستر عُري الكلمات. إلاّ أنّ هذه الـ{أنا} بالمعنى الفنّي ترتاح في أوقات كثيرة للغموض حيث تصل الرمزية إلى حدود قطع الطريق على المعاني:

{كفّ الرضيع؛

 تتعرّف – وبنَهَم – على ملامح وجه ذئب أبيض

 ساقان مبتورتان من الرّكبتين، تتعانقان في كيس قمامة أسود

 معطف صارخ اللون في حفل التأبين...

 معطف أحمر.

هذا أنا!}.

 ممّا لا شكّ فيه أنّ صاحب النص يعني ما يقول، ويعدّل في نسبة الغموض والوضوح بحسب مزاجه، إلاّ أنّ القارئ أمام نص يفتقر إلى بعض من العلاقة الواضحة بين جُمَله وحتّى بين مكوّنات الجملة الواحدة، يجد نفسه مضطراً إلى بناء المشهد على طريقته، وعلى رغم ذلك يُحرج أمام بعض الكلمات التي لا يعثر لها على مكان مناسب في المشهد. ولا يعني هذا الكلام أنّ الغموض متّهم أو أنّ الرمزيّة تسيء إلى أدبيّة النصّ وفنّيته، إنّما يعني أنّ من حق القارئ على صاحب النصّ – إذا جاز الكلام – أن يمدّه بالحدّ الأدنى من الإشارات اللغويّة التي تساعده على الوصول إلى حديقة المعنى بلا عَرَق ولهاث، وإلاّ فالمتلقّي يعيش أزمة أحاسيس في حضرة النصّ، ولا يدري بالضّبط الشعور المناسب الذي يجب أن ينبت فيه وهو يجود على الورق بخير عينيه.

في {كشاعر سعيد... كطاغية يبتسم} لم يكن سعد الياسري شاعراً سعيداً، إنّما أدّى جملة منفعلة يتضامن مجازُها مع شلاّلات تتدفّق ألماً على اتّساع جغرافية قلبه العراقيّ، وتجمع في فيئها الطرافة والرصانة، الأمل والخيبة، الحياة والموت... وإذا كان الياسري لا يستطيع أن يبني السدّ المستحيل في وجه الفجيعة فإنّه استطاع أن يدوّن الهزائم ليس بأقلّ من الأناقة التي تدوَّن بها الانتصارات، وحسب حامل القلم أن يكون وفيّاً لوجعه.

back to top