لعل خير ما يصلح مفتاحاً للولوج إلى دواخل أحمد شوقي وعوالمه النفسية – في تصورنا – هو مسرحية «مجنون ليلى»، التي لا تنفك تثير في نفس قارئها هذا السؤال الجوهري الملحّ: لماذا يكتب شاعر مثل شوقي بكل رصانته وعقلانية خطابه الشعري وواقعيته، مسرحية موغلة في العاطفة والجنون مثل «مجنون ليلى»؟!
هذا التساؤل سيقود المتأمّل إلى جملة من التحليلات التي قد تساهم في النهاية في الإشارة إلى أطياف حياة وجدانية بقيتْ مستكنّة في الهامش والظل، وقلما أُلتفِتَ إليها في مسيرة شوقي الإبداعية.لعل أول ما يسترعي الانتباه في هذا العمل الفني وهو «مجنون ليلى» أنه كُتب في إطار الجنس الأدبي المسمّى «المسرحية». والمسرحية تُمكّن مؤلفها من أن يضع على لسان بطليه: المجنون وليلى ما لا يستطيع هو أن يصرّح به ويطلقه من مكبوتات ومشاعر وآراء في المرأة والحب، وكل ما يتعلّق بتجربة الحب من صراع وانكسارات ومسرة ومرارات. والمسرحية أيضاً، كما هو معروف، تبعد مبدعها عن التورط بشخصه في السياق، أو كشف هويته من خلال البوح والتعبير، وتستدعي بدلاً من ذلك شخوصاً آخرين للتمثيل والإنابة. يُضاف إلى ذلك أن شخوص المسرحية عادةً ما تكون افتراضية أو مشوبة بالخيال والصنعة، لذلك فهي شخوص لا تُؤاخذ على ما تقول وتفعل ولا تُحاسَب، كونها خيالية ومُختلَقة، وهي فوق ذلك صالحة لأن تُتخذ ستاراً وقناعاً للاختباء والتخفي. أما اختيار شوقي «للمجنون» بطلاً لهذا العمل، ففيه نزوع صريح نحو التنفيس عن الرغبة في تمثّل الجنون وتقمّصه كمعادل موضوعي لمنطق الواقع المعيش، وكمنفذ مشروع من أسر «العقل» وارتهانه وجبروته. ثم أن شخصية «المجنون»، كما هو مأثور في الثقافة المجتمعية، تظل الشخصية الأوفر حريةً وجنوحاً والأكثر استمتاعاً بهما! وذلك بسبب انتفاء الخطوط الحُمر والمحظورات حول ما تُبدي من كلام أو تصرّف. وتلك الحرية تكاد تكون من أكثر أماني النفس ورغباتها المكبوتة عند شوقي. ثم يأتي الستار الأخير الذي يتراءى وراءه أحمد شوقي دون أن يبين بسَمْته وملامحه، وذلك حين اختار شخصيات تراثية قناعاً لواقع شعوري ونفسي يصعُب على التصريح والإبانة، ومن خلال تلك الشخصيات الموغلة في القِدم، والموحية بالبعد الزماني والمكاني، أمكن إطلاق جملة من المكبوتات والآراء في ما يخص وضع المرأة، وقيم الحب، وتابوهات التقاليد والأعراف. إن حكاية «مجنون ليلى»، بغض النظر عن ثقلها الفني والتراثي، وتأليفها بين الحقيقة والخيال، والواقع والأسطورة، تظل أهميتها الكبرى في هذا السياق متمثلة في جمعها بين «الحب» و»الجنون»، وهما النزعتان الأشد جنوحاً وشطحاً بين نزعات النفس وأهوائها. وقد كان «الحب» و»الجنون» هما الجناحان اللذان تمكّن بهما شوقي من الطيران بعيداً عن واقعه المتزمّت، فكشف عن شخصية أخرى كامنة لم يكن يستطيع أن يُواجه بها – علانيةً – عالمه الرصين، الباهت، المُسوّر بالتحفّظ والتقليدية، فالتجأ إلى هذا اللون من التعبير الموارب، المتمثّل في مسرحية «مجنون ليلى».ولعل الملاحظة المهمة في هذا السياق، تتمثّل في أن قضية الخروج من «العقلانية» نحو «الجنون» بكل ما فيها من مغايرة وتمرّد، لم تكن على مستوى الموضوع أو الخطاب الشعري فقط، وإنما اتضحت كذلك على مستويات عدة، سواءً ما تعلّق منها بمستوى اللغة والخيال، وروح النص، أو ما تعلّق بمستوى الإيقاع والشكل. وكلها عناصر تكشف عن وجه مغاير ونادر في أداء شوقي، كما سنوضح في المقال القادم.
توابل - ثقافات
محاولة للتحرر من العقل (3)
20-09-2013