من الضروري أن نفهم أن المشاركة أو مقاطعة الانتخابات القادمة بحد ذاتهما لا تشكلان علامة كافية للتدليل على أن هذا الفصيل السياسي أو ذاك، أو هذا الشخص أو ذاك، في حالة موالاة أو معارضة للسلطة. وأقول هذا لأن هناك من باتوا يقولون بأنهم من المعارضة ولكنهم احتراماً لحكم المحكمة الدستورية، وهو الذي قضى بصحة مرسوم الصوت الواحد، سيشاركون في الانتخابات وسيمارسون المعارضة- على حد زعمهم- من الداخل، وسيعملون على تغيير قانون الانتخابات عبر البرلمان نفسه. ومن باب إحسان الظن فليس عندي مشكلة مع هذا الزعم، فليقل القوم ما يريدون قوله، ولكن ليظهروا لنا خطتهم وكيف سيفعلون ذلك إن كانوا صادقين أو جادين على الأقل، ولا أجدهم يقدرون.

Ad

ولكن في الجانب الآخر، وبالرغم من اعتقادي بشكل عميق بأن المشاركة في الانتخابات اجتهاد سياسي خاطئ، وخطأ استراتيجي لأي طرف سيقدم عليه ويزعم صادقاً بأنه من المعارضة، فإنه في المقابل ليست المقاطعة بحد ذاتها دليلاً على المعارضة أيضاً، فإن تقاطع الانتخابات وتجلس من بعد ذلك لا تفعل شيئاً ليس من الرشد السياسي أبداً، بل هو أقرب إلى البلادة إن أردتم الحقيقة.

أن تقاطع العملية الانتخابية الجارية احتجاجاً على اختطافها من يد الإرادة الشعبية وإفراغها من محتواها على يد السلطة، ثم تقدم بعدها رؤيتك وأهدافك وخطة ومراحل معارضتك القادمة، هذه هي المعارضة الرشيدة التي نفهم ونريد، وهذا ما يحتاج الجمهور إلى أن يراه اليوم كي يصدقه ويؤمن به.

من الخطأ الجسيم أن يعتقد أي شخص أن عموم الناس يمتلكون القدرة على اتخاذ مواقفهم السياسية بناء على اجتهاداتهم الفكرية الخاصة، بل إن أغلبهم يتبعون ما يقوله رموزهم وقادتهم فيتحمسون ويتفاعلون معه، وهذا هو دأب الناس في كل مكان في العالم، ولهذا فإن قول كتلة الأغلبية المقاطعة، أو من تبقى منها على الأقل، بأنها مستمرة في المقاطعة ثم تعِدَ الجمهور برفع السقف دون توضيح أو تقديم ما يدل على ذلك، مكتفيةً بهذا القدر الخطابي الإنشائي، هو لإهدار كل الرصيد الجماهيري السابق وتضييعه، وجعله نهباً للأطراف الأخرى التي ستختطفه نحو المشاركة بذرائعها وتأويلاتها المختلفة، ابتداءً من حكاية المعارضة من الداخل، مروراً بالامتثال لحكم المحكمة الدستورية والدستور، وانتهاءً بمقولة إن المعارضة قد انكسر ظهرها وانتهت، وإن القبول بالواقع في هذه المرحلة والتعايش معه هو عين العقل والصواب!

معطيات العملية السياسية على الأرض اليوم، ولنعترف بهذا، تقول بأن الغلبة والتفوق حتى الساعة، هما للسلطة، فهي التي أمضت كل مخططاتها في النهاية وهي التي استقرت لها الأمور ودانت، وكلما تأخرت الفصائل السياسية المقاطعة، سواء كتلة الأغلبية أو غيرها، في تقديم رؤاها الواضحة وخططها المحددة لكيفية المعارضة لجمهورها، تركها الجمهور وركب في قطار السلطة المتحرك بعيداً عن محطة حلم الديمقراطية الحقيقية، وهو القطار الذي يتسع للجميع ولن يرفض أحداً!

نحن على مفترق طرق لمستقبل هذا البلد، والأمر بيد فصائل المعارضة، فإما أن تنهض حقاً وتباشر بالعمل المعارض الجاد، وإما أن تقعد مكتفيةً بالإنشائيات، على طريقة الأعرابي الذي أوسعهم شتماً ولكنهم ذهبوا بالإبل، فتضيِّع بذلك رصيد سنوات وأشهر طويلة وصعبة من الحراك والنضال الشبابي فتجعله هباءً منثوراً.