في ظل أزمة اليورو والهاوية المالية في أميركا، أصبح من السهل أن نتجاهل مشاكل الاقتصاد العالمي الطويلة الأجل، ولكن بينما نركز على مخاوف آنية مباشرة، تتفاقم هذه المشاكل ونستمر نحن في إهمالها على النحو الذي يعرضنا جميعاً للخطر.

Ad

وأخطر هذه المشاكل ظاهرة الاحتباس الحراري العالمي، ففي حين أدى ضعف أداء الاقتصاد العالمي إلى تباطؤ مواز للزيادة في مستويات الانبعاثات الكربونية، فإن هذا ليس أكثر من فترة إرجاء قصيرة. ونحن متخلفون كثيراً عن المنحنى: فلأن استجابتنا لتغير المناخ كانت بطيئة للغاية، فإن تحقيق هدف الحد من ارتفاع درجات الحرارة العالمية بما لا يتجاوز درجتين مئويتين سيستلزم تخفيضات حادة في مستويات الانبعاثات في المستقبل.

ويقترح البعض أننا ينبغي لنا نظراً للتباطؤ الاقتصادي أن نؤجل التعامل مع قضية الاحتباس الحراري العالمي، ولكن العكس هو الصحيح، ذلك أن تعديل وتكييف الاقتصاد العالمي وفقاً لتغير المناخ من شأنه أن يساعد في استعادة الطلب الكلي والنمو.

ومن ناحية أخرى، تستلزم وتيرة التقدم التكنولوجي والعولمة بالضرورة تنفيذ تغييرات بنيوية سريعة في الدول المتقدمة والنامية على حد سواء، وقد تكون هذه التغييرات مؤلمة، ولن تتعامل معها الأسواق بشكل جيد غالباً.

وتماماً كما نشأت أزمة "الكساد العظيم" في ثلاثينيات القرن العشرين جزئياً من المصاعب التي صاحبت التحول من اقتصاد ريفي زراعي إلى اقتصاد حضري صناعي، فإن مشاكل اليوم تنشأ جزئياً من الحاجة إلى الانتقال من التصنيع إلى الخدمات. ولابد من إنشاء شركات جديدة، والأسواق المالية الحديثة أكثر براعة في المضاربة والاستغلال من توفير الأموال لمشاريع جديدة، خصوصاً الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم.

وعلاوة على ذلك، يتطلب إتمام عملية الانتقال هذه الاستثمار في رأس المال البشري الذي لا يستطيع الأفراد تحمل تكاليفه عادة. ومن بين الخدمات التي يحتاج إليها الناس الصحة والتعليم، وهما قطاعان تلعب فيهما الحكومة عادة دوراً بالغ الأهمية (نظراً لنقائص السوق الكامنة في هذين القطاعين والمخاوف بشأن العدالة).

قبل اندلاع أزمة 2008، دارت أحاديث مطولة عن اختلالات التوازن العالمية، والحاجة إلى حمل الدول ذات الفائض، مثل ألمانيا والصين، على زيادة استهلاكها. ولم تختف هذه القضية؛ بل إن فشل ألمانيا في معالجة فائضها الخارجي المزمن يمثل جزءاً لا يتجزأ من أزمة اليورو. وفي الصين هبط الفائض كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، ولكن العواقب البعيدة الأمد لم تتكشف بعد.

ولن يختفي العجز التجاري الإجمالي لدى الولايات المتحدة من دون زيادة في المدخرات المحلية والمزيد من التغيرات الجوهرية في الترتيبات النقدية العالمية. فالأول من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم التباطؤ في البلاد، والتغييران ليسا ضمن الأجندة. فبينما تزيد الصين من استهلاكها، فإنها لن تشتري بالضرورة المزيد من السلع من الولايات المتحدة. بل إنها من المرجح أن تزيد من استهلاكها من السلع غير المتداولة- مثل الرعاية الصحية والتعليم- فيسفر هذا عن اضطرابات عميقة في سلسلة الإمداد العالمية، خصوصاً في الدول التي كانت تقدم المدخلات لمصدري السلع المصنعة في الصين.

وأخيراً، هناك أزمة عالمية فيما يتصل بالتفاوت بين الناس. والمشكلة لا تكمن في أن مجموعات الدخل العليا تحصل على حصة أكبر من الكعكة الاقتصادية فحسب، بل إن من هم في المنتصف أيضاً لا يشاركون في النمو الاقتصادي، في حين تتزايد معدلات الفقر في العديد من البلدان، وفي الولايات المتحدة تبين أن تكافؤ الفرص لم يكن أكثر من أسطورة.

وفي حين تسببت أزمة "الركود العظيم" في تفاقم هذه الاتجاهات، فإنها كانت ظاهرة قبل فترة طويلة من اندلاع الأزمة، والواقع أنني (وغيري) كنت أزعم أن التفاوت المتنامي بين الناس يُعَد واحداً من الأسباب التي أدت إلى التباطؤ الاقتصادي، وأنه يشكل جزئياً نتيجة حتمية للتغيرات البنيوية العميقة الطارئة على الاقتصاد العالمي.

إن النظام الاقتصادي والسياسي الذي يفشل في تلبية احتياجات أغلب المواطنين ليس مستداماً في الأمد البعيد، وفي نهاية المطاف، سيتآكل الإيمان بالديمقراطية واقتصاد السوق، وستصبح شرعية المؤسسات والترتيبات القائمة موضع شك. والنبأ السار هنا هو أن الفجوة بين الدول الناشئة والمتقدمة ضاقت إلى حد كبير في العقود الثلاثة الأخيرة، ورغم ذلك فإن مئات الملايين من البشر ما زالوا يعيشون في فقر، ولم يتم إحراز تقدم يُذكَر في تضييق الفجوة بين الدول الأقل تقدماً وبقية دول العالم.

وهنا لعبت اتفاقيات التجارة الحرة- بما في ذلك استمرار إعانات الدعم الزراعية غير المبررة، التي تعمل على كبح الأسعار التي يعتمد عليها دخل الكثير من أفقر الفقراء- دوراً واضحاً. ذلك أن الدول المتقدمة لم تف بوعدها في "جولة الدوحة" في نوفمبر 2001 بتأسيس نظام تجاري داعم للنمو، أو بتعهداتها في قمة مجموعة الثماني في غلين إيغلز في عام 2005 بتقديم قدر أكبر من المساعدة للدول الأكثر فقراً.

ولن تعمل السوق من تلقاء نفسها على حل أي من هذه المشاكل، فالاحتباس الحراري العالمي يمثل مشكلة "منافع عامة" بالغة الخطورة والأهمية. ومن أجل تنفيذ التحولات البنيوية التي يحتاج إليها العالم، فيتعين على الحكومات أن تضطلع بدور أكثر نشاطاً- في وقت تتزايد المطالبات بخفض الإنفاق في أوروبا والولايات المتحدة.

وبينما نتصارع مع أزمات اليوم، يتعين علينا أن نسأل أنفسنا ما إذا كنا نستجيب لها بطريقة تفضي إلى تفاقم مشاكلنا الطويلة الأمد، فالمسار الذي تميز بصقور العجز وأنصار التقشف يعمل على إضعاف الاقتصاد اليوم وتقويض آفاق المستقبل. ومن عجيب المفارقات هنا أنه في ظل نقص الطلب الكلي الذي يشكل المصدر الرئيسي للضعف العالمي اليوم لا يزال البديل متاحاً: الاستثمار في مستقبلنا، على النحو الذي يساعدنا في التعامل بشكل متزامن مع مشاكلنا الرئيسة، مثل الاحتباس الحراري العالمي، وعدم المساواة، والفقر العالمي، وضرورة التغيير البنيوي.

* جوزيف ستيغليتز | Joseph Stiglitz ، حائز جائزة نوبل في علوم الاقتصاد، وأستاذ في جامعة كولومبيا، وكبير خبراء الاقتصاد في معهد روزفلت وأحدث مؤلفاته كتاب "ثمن التفاوت: كيف يعرض المجتمع المنقسم اليوم مستقبلنا للخطر".

«بروجيكت سنديكيت، 2016» بالاتفاق مع «الجريدة»