يبدو أن "جولة الدوحة" من محادثات التجارة العالمية توفيت هذا العام، ومن دون أن نسمع لها أنيناً وهي تحتضر، ففي حين قد يظل جزء صغير من المشروع باقياً، فإن الحقيقة الأساسية هي أن هذا الفشل فريد من نوعه في تاريخ مفاوضات التجارة المتعددة للأطراف، والتي غيرت الاقتصاد العالمي منذ الحرب العالمية الثانية.

Ad

إن العديد من الجولات السبع السابقة من المفاوضات- بما في ذلك "جولة أوروغواي" التي أسفرت عن إنشاء "منظمة التجارة العالمية" في عام 1995 خلفاً للاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة (الجات)- استغرقت سنوات قبل أن تكتمل، ولكن لم تنته أي من هذه الجولات إلى الموت نتيجة للإهمال أو عدم المبالاة، والواقع أن عدم الاكتراث بات اليوم واضحاً بشكل خاص في الولايات المتحدة، ولو لم تكن وحدها على سبيل الحصر، فقد التزم الرئيس باراك أوباما الصمت فيما يتصل بالقضية في حملة إعادة انتخابه، ولم يذكرها إلا بصعوبة في حملته الأولى أيضاً، والواقع أن المرء سيتساءل عما إذا كان ما على المحك الآن مفهوماً بشكل كامل في بعض العواصم.

لقد ساهمت مفاوضات التجارة الحرة المتعددة الأطراف الناجحة بشكل كبير في تشكيل العالم الذي نعيش فيه وتحسين حياة الملايين من الناس، فبين عام 1960 وعام 1990، كان شخص واحد فقط من بين كل خمسة يعيش في مجتمع مفتوح اقتصادياً؛ واليوم يعيش تسعة من بين كل عشرة في مجتمع مفتوح اقتصادياً.

والواقع أن المجتمع العالمي بالكامل تقريباً تبنى النظام التجاري القائم على القواعد، والذي وضعته الجات ومنظمة التجارة العالمية. ولقد رسم هذا النظام خريطة طريق فعّالة للاقتصادات المخططة والمستبدلة للواردات سابقا، فيسر اندماجها في السوق العالمية.

في البداية كانت "العولمة" بمنزلة كلمة قذرة بالنسبة إلى البعض، ولكن قيمتها بالنسبة إلى الدول الأكثر فقراً أصبحت محل اعتراف اليوم حتى بين معارضيها، بعد أن ساعدت في انتشال أكثر من مليار شخص في آسيا من براثن الفقر المدقع، ورغم أن الأمر ما زال يحتاج الكثير من الجهد والعمل في إفريقيا وأجزاء من أميركا اللاتينية، فإن المقصود من "جولة الدوحة" كان أن تساعد في تزويد عدد أكبر كثيراً من الناس في العالم النامي بالقدرة على الوصول إلى الأسواق.

إن جوهر النظام المتعدد الأطراف يقوم على مبدأين: عدم التمييز والمعالجة الوطنية، وكان المبدأ الأول يوصف سابقاً في قاموس المفاوضين التجاريين بمبدأ "الدولة الأكثر تفضيلاً"، والذي يسعى في الأساس إلى ضمان حصول كل الدول بلا استثناء على الفوائد التجارية المقدمة لأي دولة، والمبدأ الثاني يلزم الدول الأعضاء بتقديم نفس المعاملة التي تتلقاها الشركات الوطنية للشركاء التجاريين العاملين داخل الحدود الوطنية.

ولقد ضمن مبدأ عدم التمييز ألا تتحول التجارة العالمية إلى شبكة معقدة من اتفاقيات التجارة الثنائية التفضيلية، وفضلاً عن ذلك، ساهم الإطار المتعدد الأطراف للمفاوضات التجارية في منح الدول الأكثر ضعفاً شروطاً تجارية أكثر توازناً من تلك التي كانت ستواجهها لو أرغمت على التفاوض ثنائياً مع دول مثل الصين أو الولايات المتحدة، أو مع الاتحاد الأوروبي.

والواقع أننا في الأعوام الأخيرة شهدنا اندفاعاً متزايداً إلى عقد الاتفاقيات الثنائية من قِبَل الدول والتكتلات التجارية الكبرى. ومن الواضح أن هذا الاندفاع استهلك كل انتباه هذه الدول والتكتلات تقريباً. وتم تهميش منظمة التجارة العالمية، وحتى ما تم إنجازه بالفعل في إطار "جولة الدوحة" غير المكتملة بات من غير المرجح أن يتحقق في أي اتفاق نهائي في المستقبل المنظور.

والواقع أن الضرر الذي لحق بمنظمة التجارة العالمية- التي أشيد بها ذات يوم بوصفها التقدم الأعظم الذي تحقق في الحوكمة العالمية منذ الفترة الملهمة التي شهدت بناء المؤسسات في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة- ربما يتحول الآن إلى ضرر دائم، والأمر الأسوأ من هذا هو أن هذا الضرر قد يخلف عواقب وخيمة ليس على التجارة فحسب، بل على العلاقات السياسية بشكل أكثر عموماً، أيضاً.

وكان من بين أعظم إنجازات منظمة التجارة العالمية نظام التحكيم الذي قدمته، أو ما يطلق عليه "آلية تسوية المنازعات". ولقد حققت هذه الهيئة المستقلة نجاحاً باهراً، فمنحت العالم منظومة شبه قضائية لحل المنازعات بين الشركاء التجاريين. ولكن استمرار نجاحها يعتمد في نهاية المطاف على مصداقية منظمة التجارة العالمية ذاتها؛ فمن المحتم أن تعاني الأضرار الجانبية الناجمة عن فشل المفاوضات المتعددة الأطراف.

الواقع أن الاندفاع الحالي إلى عقد اتفاقيات التجارة الثنائية كان مصحوباً بارتفاع في اتخاذ تدابير الحماية. على سبيل المثال، تم اتخاذ 424 من هذه التدابير في الاتحاد الأوروبي منذ عام 2008. فضلاً عن ذلك فإن التعريفات غير التمييزية في الاتحاد الأوروبي لا يمكن تطبيقها بالكامل إلا على تسعة شركاء تجاريين. أما كل الدول الأخرى فإنها تلقى معاملة "استثنائية".

وفي المستقبل سنجد أنفسنا حتماً أمام احتمال عقد اتفاقية تجارة حرة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، كما تلوح في الأفق الآن معاهدة بين الاتحاد الأوروبي واليابان، وكذا "شراكة عبر الباسيفيكي" لتحرير التجارة بين الولايات المتحدة واقتصادات آسيا وأميركا اللاتينية الرئيسة. وإذا أُبرم أي منها، وهو ما أشك فيه، فإن حصة ضخمة من التجارة العالمية ستدار في إطار تمييزي.

والواقع أن البعض يدركون المخاطر، ففي شهر مايو 2011، اشتركت أنا وجاغديش باغواتي من جامعة كولومبيا في رئاسة مجموعة عالية المستوى شَكَّلها رؤساء وزراء المملكة المتحدة، وألمانيا، وتركيا، وإندونيسيا، لمحاولة دفع العملية المتعددة الأطراف إلى الأمام. ولقد رحب رعاتنا بالتوصيات التي أصدرناها، ولكن هذه الجهود ومثلها كثير لم تكتسب قدراً يُذكَر من الثِقَل، الأمر الذي أدى إلى اندفاع كل البلدان نحو عالم عامر بالشكوك والمخاطر.

ولم يفت الأوان بعد لوقف هذا المد العنيد من التوجهات نحو إبرام التعاقدات الثنائية، لكن الطريقة الوحيدة لتحقيق هذه الغاية تتلخص في استئناف مفاوضات منظمة التجارة العالمية. وحتى إذا لم يكن بالإمكان إتمام "جولة الدوحة"، فقد تكون هناك سبل أخرى، مثل تنفيذ ما تم الاتفاق عليه بالفعل. ولعلنا نستطيع أن نلجأ إلى بديل آخر يتمثل بتشجيع المفاوضات المتعددة الأطراف بين الدول الراغبة، في مجالات معينة مثل الخدمات، مع الدول الأعضاء الأخرى في منظمة التجارة العالمية التي قد تنضم في وقت لاحق. ولكن إذا أردنا أن نمضي قُدُماً بدلاً من العودة إلى أوضاع سابقة، أو الانزلاق إلى أوقات أشد خطورة، فيتعين على الولايات المتحدة بشكل خاص أن تعيد تأكيد دورها البنّاء في دعم التعددية. ينبغي للولايات المتحدة أن تعود إلى دور الزعامة من جديد، كما فعلت في الماضي، والآن يتعين عليها أن تفعل هذا والصين إلى جانبها.

* بيتر ساذرلاند ، رئيس كلية لندن للاقتصاد، والرئيس غير التنفيذي لمجلس إدارة "جولدمان ساكس" الدولية، والممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لشؤون الهجرة الدولية والتنمية، والمدير العام السابق لمنظمة التجارة العالمية، ومفوض الاتحاد الأوروبي لشؤون المنافسة سابقا، والنائب العام الأسبق في أيرلندا.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»