بارودته كانت "يونانية..أم طلق" ،كانت ذخيرتها بعض القلل الحديدية الصغيرة أو الكبيرة ،وفقاً للهدف وحجم الطريدة، ثم قطعة من القماش تدفع بسيخ بحجم ماسورتها، يتم الإحتفاظ به في العادة في ثقب في صدرها من الأسفل، ثم نصف عِرامٍ (وليس غرام) من ملح البارود الأسود اللماع ثم شريطة أخرى تدفع إلى جوف البارودة وتدك بسيخ الحديد دكاً.. ثم توضع كبسولة متفجرة تحت ديك الضرب فيصبح كل شيء جاهزاً.

Ad

كان هو بلا عمل وبلا بيت.. مُلكه عباءته وهذه البارودة وكان يتقن مهنة "الحَوْمِ" والتنقل من عرب إلى عرب ومن "فِريج" إلى "فِريجٍ" آخر.. كان يحرص أن يُكحِّل عينيه كل صباح قبل أن ينطلق وكان يحفظ أبياتاً من الشعر البدوي بعضها لـ"الظلماوي" وبعضها الآخر إما لنمر إبن عدوان أو لجديع إبن هذال.. وهو ما أن يصل إلى البيت الذي ينتقيه بعناية شديدة ليحلَّ عليه ضيفاً حتى يبدأ بإستعراض "اليونانية" وهو يخاطبها بشعر لغيره:

يا بندقي ياللي عَليْكَ الوصايفْ

يا نابْ رَبْدا لَنْ جَرَتْ بي إمْصيبهْ

..في كل "فِريجٍ" وفي كل حيٍّ وفي كل عرب وفي كل يوم كانت له حكاية ،فمرة يسرد قصة خيالية يذهب فيها إلى الشام وعلى الطريق تصادفه أهوال عظيمة ومرة أخرى يسرد قصة خيالية أخرى تأخذه إلى "الأستانة" وفي الطريق يقطع وادي الضباع ووادي الحرامية ويُثقِّبُ صدور لصوص إعترضوه برصاص "يونانيته" ولم ينس ولا مرة واحدة أن يقول أن عيون أولئك اللصوص كانت "زرق" وأن أسنانهم كانت "فِرْق".

قال مرة أنه نزل على مضارب نوري بن شعلان وأن إستقباله كان عظيماً وأنه عشق "مَيْثا" الأسطورية الجمال ثم ردد أبيات الشعر التالية التي نسبها إلى نفسه مع أن معظم السامعين كانوا يعرفون قائلها:

حَيِّيك يا برقٍ لَعَجْ يَمْ حَوْرانْ

أللي على "ميثا" تلاعج إبْروقَهْ

"ميثا" خَذَوها من دحاديل حوران

وشْ لك من القطف المْحْمِّضْ تذوكَه

ثم في ذلك الصيف خلال الحرب العالمية الأولى نزل "فِريجاً" جديداً بعد أن رحل عن فِريج سابق فسمع الرجال في مضارب الشعر المُشرَّعة يتحدثون عن بطولاتهم وعن مطارداتهم للجنود الأتراك المنسحبين وتقشيطهم أسلحتهم وأمتعتهم وما كان معهم من "مجيديات" فاستطاب الحكاية وترك لخياله العنان ليحيك ما يشاء من القصص وكان يحرص على الإستعانة ببندقيته ليضفي مصداقية على رواياته.. كان يقذف بها عالياً أمام سامعيه ثم يتلقفها قبل أن تهوي إلى الأرض فيضرب على أخمصها بكفه بقوة وهو يردد :الله..الله..الله عليك يا حبيبتي.. أكثر من مئة من الجنود الأتراك حصدتُهم حصداً بهذه اليونانية.

..ومن "فِريجٍ" إلى "فِريج" روى هذه الرواية أكثر من خمسين مرة.. إلى أن سئمه الناس وسئموا روايته ويونانيته.. فقرر أحدهم أن يضع له حداً فأبلغه ذات مساء بعد أن إنتهى من تكرار قصته بأن الأتراك إنتصروا في الحرب وأنهم عادوا إلى البلاد وأنهم الآن يبحثون عنه لأنه قتل العشرات من عساكرهم.

..تلفَّت حوله وتفحَّص وجوه الحاضرين وجهاً وجهاً ولما شعر أن الحكاية جدية وليس مجرد مِزاح أخذ يولول ويقول وهو يحاول إخفاء البندقية تحت الفراش الذي يجلس فوقه :يا ويْلي.. يا حسرتي الله ينتقم منْك يا لساني.. والله إن يونانيتي لم تقتل أحداً إن الذي قتلهم هو لساني.. الله يجازيك يا لساني.