ما وراء حدود اللغة
أصوات في الشعر الانكليزي تحاول أن تقتحم بلغتها مجهولا لا يتقبل ضوابط لغة أو ضوابط مخيلة أو ضوابط مشاعر أو أفكار. "باتريك ماكي"، أحد هذه الأصوات الشابة. قصائده في مجموعته الشعرية الأولى "مقتطفات من مذكرات أحمق" لا تهدف إلى دلالة، حتى لو كانت دلالة غير مباشرة أو غامضة: "كنتُ الرجلَ المناسب في المكان المناسب، ولكن الوقت لم يكن كذلك. علّمتُ فرسي أن يحتسي الماءَ بأمر، ولكن ما من ماء بل صحراء تمتد بين الأراضي الوعرة. فلتتوقفي عن التوهم، أيتها الشمس الأفعى، وأنت أيها البحر، توقف عن وثبات لهيبِك الأبيض داخل الأفق، فأنا لا أرغبُ برؤية كليكما. راقبْني أتفحّصُ هذه الحجارةَ التي وجدت، هذه الخطوطَ المضطربةَ حيث تملي وقائعها الأحداث.
سوف أتعلم تنويعات الحذق. ومن يدٍ ليد أقلّب ثقلَها بحميمية".عنوان هذه القصيدة "فن الشعر"، وهو عنوان مألوف لقصائد شهيرة كُتبت بشأن ماهية الشعر، مثل قصيدة "هوراس"، "فيرلين"، "أودن"، "ميووش". لكن "ماكي" هنا يقطع السبيل على أي بصيرة، انه يعرض أفكاراً وشظايا مشاهد، وعلينا أن نجد الصلة التي تربطها بالعنوان. فإذا كان مناسباً مع المكان، فالزمان ليس كذلك. والصور المتتالية ليست إلا محاولة قطيعة مع الطبيعة (الفرس، الصحراء، الشمس، والبحر)، فهو لا يريدها مصدر محاكاة له كشاعر، بل يلجأ إلى الغامض اللامرئي، إلى ضرب من الزمان خفي (الخطوط المضطربة، حيث تملي وقائعها الأحداث). إن اجتهادي النقدي قد لا يكون صائباً، وهذه القصيدة بدت لي أيسر القصائد عرضة للاجتهاد، لأن أكثر القصائد الأخرى تلاحق شظايا: "الشرارة: عين جديدة نمت في جوربي ودفعت بالقديمة خارجاً وأنا نائم". هذا الشاعر من مواليد لندن 1974، وقد عاش سنوات نشأته في عمان. أكمل دراسته الجامعية في أكسفورد، وأصبح أستاذاً زائراً في هارفرد. وينشغل الآن بإعداد دراسة حول إليوت. ومجموعته، التي بين يدي هي أول كتاب له، وفيه خصائص صوت واضحة الشخصية. لكن ثمة ما يحول بين هذه الخصائص وبيني كشاعر عربي. ما يحول بين مخيلتي ومخيلته وجملة مشاعري ومشاعره. إن السياحة النافعة والممتعة مع قصائد ما بعد حداثية كهذه يصحبها شيء من الوعي النقدي الحذر، لأنني أعرف أن مشاعر "ماكي" التي أُخفيت وأفكاره التي طمست تحت لغة أصبحت هي ذاتها موضع ارتياب أمر يخص جوهر هذه الحضارة، التي أعيشها من دون أن أفقد حاسة المراقب المُبعَد والمعزول.إن Carcanet، التي أصدرت هذه المجموعة، أصدرت ترجمة كاملة لآخر قصائد "بول تسيلان" (ولد في رومانيا 1920 وانتحر في باريس 1970)، ومتابعة القراءة الشعرية لهذا الصوت الرائد بعد قصائد الشاب "ماكي" تضع أصابع أحدنا على جذور عزلة اللغة عن مهمة الإيصال. إن "تسيلان" بتعبير أحد النقاد، يترجم عن لغة نائية مجهولة وبصورة استثنائية وغريبة: "فوق العتمة الرمادية للأرض الخراب شجرةٌ/ فكرةٌ سامية تُطلق نوتةَ ضوء مازالت هناك أغان تُغنى ما وراء الكائن الإنساني".الترجمة هنا تأخذ مساحتها دون شحنات عاطفية وفكرية، تعززها المشاركةُ والفهم المشترك. الموهبة الشعرية الشابة الغربية تملك هذه المشاركة بالفطرة. الموهبة الشابة العربية لا تملك إلا أن تحاكي. بهذا المعنى تبدو حداثتها كاريكاتيرا.الكتاب الجديد لـ"تسيلان" يضم مجموعتين هما آخر ما نشره في الألمانية قبل انتحاره. الأول Fathomsuns، وهي كلمة مولدة من شموس ومقياس للسبر، قد تصعب ترجمتها. والثاني Benighted، ومعناها الذي أدركه الليل. القصائد، شأن كل شعر "تسيلان"، قصيرة، قصيرة البيت، تحسب حساب الكلمات، والإشارة الشرارة المعبأة. قراءته صعبة للغاية، إذا ما كانت القراءة تهدف إلى الفهم، وإغناء التجربة المعرفية والروحية. لكن هذه الصعوبة ليست تعجيزية بصورة مطلقة. المقدمة التي كتبها المترجم "إيان فيرلي"، لا تخلو من صياغات نقدية ملتبسة ومتحذلقة، والعودة إلى مقدمة الشاعر "همبرغر" في ترجمة سابقة لـ"تسيلان" (صدرت عن بنجوين عام 1988)، قد تكون نافعة. على أن هناك كتاباً دراسياً حول الشاعر لـ"جون فيلستنر" صدر عن دار Yale press. إن "تسيلان" عصي على القراءة من دون دليل.