الأدب الفارسي إلى أين؟ (2-2)
يمضي الدكتور محمد رضا كدكني في رصد عصور تطور الشعر الفارسي في كتابه (الأدب الفارسي منذ عصر الجامي وحتى أيامنا)، بالوصول إلى ما سماه بالعصر القاجاري الممتد من أواخر القرن الثامن عشر الميلادي إلى أوائل القرن العشرين. وهذا العصر يبدأ بسقوط الأسرة الصفوية، ثم ظهور نادر شاه وسقوطه أيضاً. وتأثير هذه العوامل مجتمعة من قلاقل وعدم استقرار على الشعر الفارسي الذي فقد تألقه وتراجع إلى مرحلة التقليد وإعادة استنساخ أسلوب شعراء القرنين الحادي عشر والثاني عشر. وبذلك يرى المؤلف أن أهم ملامح هذا العصر هو الارتداد نحو إحياء النماذج القديمة وتوجيه ضربة موجعة إلى التجديدات في الأسلوب والمضمون التي عرفت بـ(الأسلوب الهندي) إبان عهد الصفويين.في مجال المقارنة مع الشعر العربي في ذات الفترة التاريخية، يمكن اعتبار ما يسمى بمرحلة الإحياء أو الكلاسيكية الجديدة التي قادها محمود سامي البارودي ومن ثم تلامذته مثل أحمد شوقي وحافظ إبراهيم والرصافي والزهاوي وغيرهم، صورة شبيهة للعصر القاجاري أعلاه. فظاهرة التقليد وإحياء نموذج القصيدة العربية الكلاسيكية بشكلها ومضمونها من مدح وغزل ووصف ورثاء كان هو الملمح الأهم لهذه المرحلة.
يأتي المؤلف بعد ذلك إلى ما سماه بعصر الحركة الدستورية، والذي يبدأ منذ النصف الثاني من القرن العشرين، والذي مهدت له ظروف انقلاب عام 1920م على سلطة ناصر الدين شاه ومظهر الدين شاه. ففي هذه الفترة عكست الآداب من شعر ونثر جميع جهود الشعب الإيراني من أجل الوصول إلى حكومة دستورية والخلاص من النظام الاستبدادي. وكانت مفاهيم وأفكار مثل «الحرية» و»دولة القانون» و»المساواة» كثيرة الدوران في المنتج الأدبي، الذي غدا أدباً للحياة والواقع أكثر منه تقليداً واستنساخاً للماضي. وقد ساعد على دفع هذه العجلة ما راج من بيانات أدبية تنتقد بشدة الركون للأدب الكلاسيكي ووصفه بالمبالغة والكذب والاستسلام للخواء وخمول العقل وإفساد الذوق ومجافاة الحياة الحقة. هذه الخطوة التجديدية الإصلاحية بما فيها من لهجة حادة ونقد لاذع تبنتها شخصيات أدبية لعل أهمها «آخوند زادة» و»آقاخان الكرماني»، وكلاهما يذكراننا بذات الفترة الزاخرة بمتغيرات الذوق الأدبي في نسخته العربية، والتي حمل لواءها طه حسين والعقاد وميخائيل نعيمة، وما أتت به مدرستهم النقدية من زعزعة لمفاهيم تقليدية راسخة حول رسالة الشعر.ولكن يبدو أن ثمار انقلاب 1920م لم تؤتِ أكلها بعد ذلك، فقد هيأ الإنكليز بتدخلهم السلطة لضياء الدين الطبطبائي ثم لرضا شاه بهلوي، وبدأت ترين مع هذا العهد غيوم الشتاء الأسود كما وصف المؤلف. فمع التضييق على الحريات ونقص المكتسبات بدأ التشرذم في صفوف الأدباء، وبدأ الشعر الفارسي يفقد هدفه الأصلي وهو التعبير عن الحياة والمجتمع، وغدا شعراً مبهماً وملتبساً تحت تأثير آلة التضييق والعسف. ولعل هذا الجو الملبد أتاح الفرصة بعد ذلك لنوع جديد من الشعر المغاير أو المختلف، أو لنقل الهارب من المعايير الدانية المألوفة. فأتت تجربة الشاعر نيما يوشيج غير تقليدية في اللغة والصورة الشعرية والموسيقى والمضمون والتقنيات الفنية. ولعل تجديدات نيما في عروض الشعر وموسيقاه يذكرنا بتجديدات نازك الملائكة في مجال المقارنة، أما تأثره بالشعر الغربي وتوظيفه للأسطورة وانطلاقه نحو قصيدة النثر فيضعنا أمام شاهد ملموس لمرحلة تطورية مطابقة في شعرنا العربي.ينتهي سرد المؤلف لتطور الشعر الفارسي عند مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي سماها مرحلة الإبداع وبسط التجربة. فقد تمتع المجتمع الإيراني بحريات النشر وحصد ثمار إلغاء الرقابة بعد سبتمبر 1941م. وسرت في الشباب روح نيما يوشيج وتأثيراته، فاحتذوه واستنهضوا به مواهبهم. كذلك يمكن اعتبار ترجمات الأشعار الغربية من فرنسية وروسية وإنكليزية رافداً آخر في صالح ذلك الازدهار. إلى هنا ينتهي السرد التاريخي لما مضى، لكن وضع إيران حالياً وما يزخر به من متغيرات سياسية وعقائديةٍ فكرية ينبئ ولا شك بمتغيرات جذرية في مشهد الأدب الفارسي. ولا نملك إلا أن ننتظر دراسة أخرى تضيء هذا الواقع الجديد.