من الذاكرة: «روضة»!
لا يصدق أبناؤنا أن معاناتنا، عندما كنا في مثل أعمارهم، كانت بحجم ما نقوله ونرويه ونعلمه لهم وأكثر، وبالتأكيد فإن أبناءهم لن يصدقوا ما سيقولونه لهم حول معاناتهم هم، فهذه هي سنة الحياة، فنحن أيضاً كنا نستكثر الأمور عندما كان يروي لنا آباؤنا وأجدادنا ما عانوه من شظف العيش وقسوته عندما كانوا صغاراً بلا طفولة.يبرم أبنائي شفاههم عندما أقول لهم إن أول "روضة" مدرسية ذهبت إليها كانت ظلال شجرة بلوط كبيرة معمرة، وان "الأقساط" التي كنا ندفعها لـ"خطيب" الروضة يومياً وفي كل صباح كانت رغيف خبز وبيضة واحدة، وان هذه الأقساط كانت ترتفع في الشتاء بزيادة "قِرْمية" من الحطب في كل يوم، إلى جانب رغيف الخبز والبيضة.
إن الشجرة التي كانت أول "روضة"! أذْهب إليها لاتزال موجودة، وإن صورة "الخطيب" بعمامته الأنيقة ولحيته المشذبة لاتزال تقفز في قاع الذاكرة لتتجسد حقيقة أمام عيْنيَّ كلما مررت بالطريق الذي أصبح معبداً تعبره عشرات السيارات يومياً، ولعل أهم هذا الذي يتجسد أمام عيْنيَّ هو صورة ذلك "الخطيب" وهو يتابع هز "مطْرق" الرمان أمام أنوفنا طوال اليوم، ولا يتورع في أن يخبط خبطاً عشوائياً إذا شعر بأي همهمة ولو خافتة، بينما كنا نحن الطلبة نتحلق حوله في جلسة دائرية نفترش فيها أرضاً ترابية حمراء لا يوجد ما هو أجمل من رائحتها في الصباح الباكر، حيث قطرات الندى تبلل جبينها، كما تبلل قطرات عرق الخجل جبين غادة حسناء. لم تكن أعمار طلبة هذه "الروضة" متقاربة، فهناك من تجاوز الخامسة عشرة، وهناك من لايزال في الخامسة أو السادسة، وأذكر ذات يوم خريفي أغبر أن الغيوم السوداء تلبدت فجأة في السماء فهطلت أمطار غزيرة تبعتها عاصفة "بَرَدٍ" شديدة، فهرب الطلبة من "روضتهم" كيفياً كالطيور المذعورة، ولأنني كنت من بين أصغر هؤلاء سناً فقد حملني قريب لي وهو من هذه "الروضة" ذاتها، وكان عمره أربعة أضعاف عمري، وبقي يركض مترنحاً حتى أوصلني إلى حيث كان أهلي يضربون بيت الشعر إلى جانب بيت أهله.انتقلنا من تلك "الروضة" الجميلة إلى أول مدرسة ابتدائية تُفتح في القرية فتعرفنا إلى الألواح الغرانيتية و"الطبشور" الجيري الأبيض والمقاعد الخشبية، وبدل ذلك "الخطيب" الذي كان شيخاً في غاية القسوة والعنف أصبحنا نلتقي في كل صباح أستاذاً جميل المخبر، ولا يحمل لا "مطرق" رمان متوحشا ضربته لاذعة ومؤلمة ولا حتى "عصا" حنونة ورحيمة.لم ندُم طويلاً في هذه المدرسة إذ ما ان تجاوز أول فوج الصف الرابع حتى تفرق طلابه أيدي سبأ فأنا التحقت بمدرسة النصر الثانوية التي كانت تتبع للقوات المسلحة، والتي كان مديرها أبومأمون الخصاونة، رحمه الله رحمة واسعة، ومن هذه المدرسة انتقلت إلى "المدرسة الإعدادية" في عمان التي أصبح اسمها كلية الشهيد فيصل الثاني، بينما انتقل آخرون إلى مدرسة المفرق وإلى مدارس أخرى في الزرقاء.في إحدى العطل المدرسية الربيعية التقينا أحد أصدقائي وأنا في قريتنا العزيزة، وبعد انتهاء العطلة المدرسية توجهنا في الصباح الباكر مشياً على الأقدام، وقطعنا أكثر من عشرة كيلومترات حتى وصلنا إلى قرية "الرُّمان" القديمة المعروفة، على أمل أن نأخذ من هناك "باص" جرش، ونذهب إلى عمان لألتحق أنا بمدرستي الداخلية في العبدلي، ويتوجه هو في "باص" آخر إلى الزرقاء... ولقد انتظرنا... وانتظرنا ولم يأت "باص" جرش فقررنا أن نكمل سيراً على الأقدام لعل تلحق بنا حافلة أو نصادف سيارة، وبقينا نسير... ونحن نلتفت إلى الخلف بدون أي جدوى إلى أن وصلنا إلى صويلح في ساعات الظهيرة... فهل يصدق الأبناء هذا؟!