اعتاد الطغاة أن يتحسبوا من الطغاة الآخرين، أو ربما يخشون من تمرد شعوبهم بسبب طغيانهم وظلمهم، هكذا قرأوا في مدرسة الطغاة التي عزز أركانها مكيافيللي في كتابه الأمير. الطغاة هم الطغاة في أي مكان وأي زمان، من أي ملة كانوا ومن أي مذهب جاؤوا، "فالملك هو الملك" كما أخبرنا سعد الله ونوس، رحمه الله، في مسرحيته الخالدة، سواء كان الملك الحقيقي أو أبوعزة المغفل.

Ad

"ففي الأنظمة التنكرية... تلك هي القاعدة الجوهرية... اعطني تاجاً ورداءً أعطيك ملكاً"، كما أنه يتضح أنه "ليس للملك سحنة أو وجه"، ويؤكد ونوس أنه "ما من ملك يتخلى عن عرشه... إلا اقتلاعاً"، أما كيف يعاقب الملك فيحكي عن كتب التاريخ كيف أن شعباً غضب من ظلم ملكه فذبحه وأكله.

لم يتخيل الطغاة أنه سيأتي يوم ما لكي تتم محاكمتهم دولياً. ولم يتخيل الضحايا أنه سيأتي علينا زمن يكون فيه بالإمكان نظرياً وعملياً جر مجرم حرب إلى محكمة دولية لمحاسبته على جرائم قد ارتكبها ضد الإنسانية، وعلى رؤوس الأشهاد، وضمن تفاصيل دولية.

وبما أن ذلك قد أصبح أمراً واقعاً، على الأقل من الناحية النظرية والشكلية، وتم تتويج ذلك بدخول اتفاقية روما ١٩٩٨ حيز النفاذ في ٢٠٠٢، وتأسيس المحكمة الجنائية الدولية، وتعيين قضاتها، ومدعيها الدولي، ومن ثم اتخاذها لاهاي مقراً لها، وصدور أول حكم لها على أحد أمراء الحرب في الكونغو قبل شهور، فإن هناك باباً جديداً تم فتحه، وصار على الطغاة أن يتحسبوا منه ويخشوه، إنه باب لم يأت على ذكره مكيافيللي، وهو ينصح آل ميديتشي، ولم يرد في تجليات وإبداعات ونوس، ولم يتخيله عتاة الطغاة.

وإنه ببساطة بداية تشكيل عدالة جنائية دولية، طريقها مازال طويلاً، ووصولها لهذه المرحلة لم يكن سهلاً، بل مر بمطبات ومراحل ومنزلقات لها أول وليس لها آخر، ومازالت تلك الأشواك ترمى تباعاً في طريق تأسيس عدالة جنائية دولية فعالة لضمان عدم إفلات الطغاة من العدالة. ومع أن الطريق مازال في مراحل التشكل، إلا أن ضوءاً في نهاية النفق قد بدأ بالظهور كما سنرى.