الضحك اللبناني... «كوميديا سوداء»
إحدى إيجابيات القنوات التلفزيونية اللبنانية كثرة برامج الضحك الأسبوعية، والتي تشكل محطة أو استراحة للمشاهد بين مساحات زمنية واسعة تأخذها المسلسلات الدرامية و{التوك شو} ونشرات الأخبار الطافحة بالدم والبارود والتصريحات الكيدية والأصابع المهددة. لكن بين هذا وذاك، لا تبتعد البرامج الكوميدية في جزء كبير منها، عن الحمى السياسة وتداعياتها، فتبدو للمشاهد {كوميديا سوداء}.
تعبّر البرامج الكوميدية في لبنان عن عنوان عريض يتردد فيها كما في نشرات الأخبار وعلى آلسنة الناس وهو {وينيّ الدولة}. على أن كثرة الأزمات السياسية والمناوشات الخطابية في هذا البلد تزيد من ازدهار البرامج الساخرة وتجعل من السهل إيجاد أفكار لتصويرها.يقدم معظم المحطات اللبنانية البرامج الكوميدية، ما عدا {المنار} التي لا تحب الضحك أو تأخذ الأمور كافة على محمل الجد. والظاهر أن غالبية الأحزاب والأنظمة الشمولية لا تحب الضحك، ففي مصر سارع نظام الرئيس محمد مرسي إلى محاربة باسم يوسف الذي يقدم برنامجاً فكاهياً حول السياسة يفضح التصريحات التي تقال هناك وهناك، ولم يحتمل الرئيس الأخواني أن يكون عرضة للنقد من فكاهي له جمهوره العريض فأحاله إلى القضاء، و{حزب الله» أيضاً لم يحتمل النقد من شربل خليل فأشعل الإطارات في الشارع.
والراجح أن البرامج الكوميدية هي الأكثر ازدهاراً في لبنان إلى جانب {التوك شو} السياسي، ونلمح من خلالها الواقع اللبناني بتلاوينه كلها، السياسية والاجتماعية والأمنية وحتى التلفزيونية والإعلانية و{الخيانة الزوجية}، إذ يعري الكوميديون الأشياء كافة في {اسكتشاتهم}، يرسمون الابتسامة على وجوه المشاهدين، وربما يجعلونهم يضحكون على أنفسهم في هذا البلد الصاخب بالتناقضات والتجاوزات.اللافت أننا أصبحنا نظنّ أن السياسيين يقلدون الكوميديين وليس العكس، وبات تقليد الشخصيات السياسية اللبنانية أحد الأمور النمطية السهلة والمملّة، من ميشال عون إلى نبيه بري وإيلي الفرزلي وسليمان فرنجية ومحمد رعد وأميل لحود وفؤاد السنيورة وسامي الجميل وكارلوس إده. فمن منا لا يعرف أصوات هؤلاء، حركاتهم، وميزاتهم السلبية والإيجابية؟ ولا يحتاج بعض السياسيين إلى تقليد في مشاهد ساخرة، فتصريحاته ومواقفه السياسية كوميديا في حد ذاتها، هذا ما تقوله الكاميرا. وبرنامج {شي أن أن} على محطة {الجديد} وضع تصريحات ومقابلات كثيرة للسياسيين في إطار كوميدي مناسب وساخر.عموماً، لا تخلو البرامج الكوميدية اللبنانية من شوائب وهفوات وتسرع وسطحية، وينحاز بعضها بشكل سافر ضد شخصيات بعينها أو تيارات سياسية تبعاً لانتماء مخرجها أو صاحبها. حتى إن أحد البرامج مثلاً تحوَّل إلى بروباغندا مقنَّعة ضد فريق محدد من السياسيين، ويقف برنامج آخر بالمرصاد لشخصية سياسية بحد ذاتها. على أن بعض الاسكتشات الفكاهية (وأحيانا البرامج) يقوم على الافتعال والتكلف والمبالغة والوقاحة بعيداً عن العفوية والاحتراف في أداء الأدوار، فنجد ممثلاً يمارس القهقهة المنعزلة عن الواقع والإحساس، أو يتحفنا بضحك فيه نوع من ازدراء غير مباشر للضحك، يدفع بعض المشاهدين إلى تغيير المحطة بحثاً عن برامج أخرى، أو لنقل إن بعض البرامج أشبه بـ{الدكاكين}. تماسل وتكرارالمحنة الأبرز في البرامج الساخرة هي التكرار الرتيب والتكاسل في إيجاد مواضيع وأفكار جديدة. يسع المتابع أن يتوقع مسبقاً ماذا سيقول بعض الممثلين في الاسكتشات، خصوصاً أن البرامج تعتمد على شخصيات محددة في التمثيل، تحافظ على الصورة مثل دور الشاعر الأطرميزي (فادي شربل) في {كتير سلبي} وعمو غابي (نعيم حلاوي) في {ما في متلو}، فهما نكتة {ممجوجة} ومستمرة تتبدل طريقة قولها ويتغير مكان تصويرها والمشهد واحد. وحقيقة عمو غابي والشاعر الأطرميزي تنطبق على أدوار كثيرة تقدم هنا وهناك.العنصرية واضحة في بعض البرامج الكوميدية، تفوح رائحتها عبر تناول شخصيات المثليين وأحياناً المرأة والسوريين وغيرهم، ولا نتفاجأ إن شاهدنا برنامجاً يتهم بلدة بالإرهاب وآخر يسم منطقة بالسرقة والمخدرات. كذلك يبالغ بعض البرامج الكوميدية في التركيز على النكات الجنسية والألفاظ {النابية} و{الخادشة للحياء}، وفي ظنّ أصحابها ومنتجيها أن كل ما هو جنسي وخادش مثير للضحك في مجتمع محكوم بالتابوات والمحرمات، تماماً كما {لول} على otv و{أهضم شي} على mtv و{كوميكاز} على المؤسسة اللبنانية للإرسال. كأن هذه البرامج تستخف بالمتلقي وتستجدي بأرخص الوسائل لاستمالة الجمهور عبر اسكتشات في غالبيتها لا تحمل جديداً، ولا تقدم أي نوع من الإبداع التلفزيوني، بل هدفها الأوحد تجاري محض. لم تعد النكات والألفاظ الجنسية (البورنوية) كسراً للتابو، بل باتت أمراً مملاً ومستنفداً. حتى إن استعان {كوميكاز} بفتاة جميلة لإطلاق النكات الإباحية، فهذه الخطوة لن تغير المعادلة.يمكننا أن ننتقد كثيراً البرامج الساخرة، مع يقيننا أن صناعتها وإيجاد ممثلين محترفين لأداء الأدوار فيها ليسا أمرين سهلين، ربما لأن الكوميديا موهبة ربانية في بعض جوانبها والضحك من الأمور اللاإرادوية، ومن الصعب إيجاد أفكار جديدة (ما عدا السياسية) بسهولة لبرامج هي أشبه بطبق أسبوعي {فاخر} للمشاهدين الذين يبحثون عن فشة الخلق، بعيداً من عناء السياسة والمشاغل اليومية وزحمة السير.باختصار، تدلّ البرامج الكوميدية الساخرة في لبنان على الحرية المتوافرة في هذا البلد، ولكن مسارها لم يخل من بعض الألغام والشرائك. ثمة أناس يؤدون في الحياة دور {أعداء الضحك} كما يسميهم كونديرا، وثمة رجل دين هدد بالنزول إلى الشارع إذا تناوله برنامج في مشهد ساخر، وأحد الممثلين تلقى تهديدات من بعض الجماعات المتطرفة... المجلس الوطني للإعلام في لبنان لم يجد {شوائب} و{تجاوزات} في الإعلام اللبناني إلا في برنامج DNA الذي يقدمه نديم قطيش على قناة {المستقبل}، الحجة التي ساقها المجلس كي يصدر بياناً هلامياً، أن برنامج قطيش تطرق إلى الرئيس السوري بشار الأسد، وعلى هذا يمكننا القول إنه لا يخاف من الضحك إلا الطغاة أو أشباههم.