إن الحكومة التي لا تفرض الضرائب الكافية لتغطية إنفاقها لابد أن تصادف في نهاية المطاف كافة أشكال المتاعب الناجمة عن الديون. فسوف ترتفع أسعار فائدتها الاسمية مع خشية حاملي السندات من التضخم. وسوف يتقوقع كبار رجال أعمالها ويحاولون نقل ثرواتهم إلى خارج الشركات التي يديرونها خوفاً من فرض ضرائب مرتفعة على الشركات في المستقبل.
وعلاوة على ذلك، سوف ترتفع أسعار الفائدة الحقيقية، نظراً لعدم اليقين في السياسات، وهو ما من شأنه أن يجعل العديد من الاستثمارات المنتجة على المستوى الاجتماعي حقاً غير مربحة. وعندما يستفحل التضخم فإن تقسم العمل سوف يتقلص، وما كان ذات يوم شبكة ضخمة تتماسك أجزاؤها بخيوط نقدية رقيقة فسوف يتفتت إلى شبكات بالغة الضآلة تمسكها قيود غليظة من الثقة الشخصية والالتزام الاجتماعي. والتقسيم الصغير للعمل يعني انخفاض الإنتاجية.كل هذا من المحتم أن يحدث- في نهاية المطاف- إذا لم تفرض أي حكومة الضرائب الكافية لتغطية إنفاقها، ولكن هل من الممكن أن يحدث طالما ظلت أسعار الفائدة منخفضة، وبقيت أسعار الأسهم مزدهرة، والتضخم تحت السيطرة؟ الواقع أنني وغيري من خبراء الاقتصاد- بمن في ذلك لاري سامرز، ولورا تايسون، وبول كروجمان، وآخرون كثيرون- نعتقد أن هذا من غير الممكن أن يحدث.فطالما ظلت أسعار الأسهم مزدهرة، فلن يشعر كبار رجال الأعمال بالخوف من الضرائب في المستقبل أو عدم اليقين في ما يتصل بالسياسات. وما دامت أسعار الفائدة منخفضة، فلن تنشأ ضغوط نزولية على الاستثمارات العامة. وما دام معدل التضخم منخفضا، فإن الديون الإضافية التي تصدرها الحكومة تصبح محل تقدير كبير باعتبارها مستودعا للقيمة، وتبث الطمأنينة في أنفس المدخرين، وتقدم دفعة قوية للاقتصاد، لأنها تساعد في تقليص الديون وتزيد من سرعة الإنفاق.باختصار، لا يراقب خبراء الاقتصاد الكميات فحسب- مقدار الدين الذي تصدره الحكومة- بل الأسعار أيضا، ولأن الناس يقايضون السندات في مقابل السلع، والنقد، والأسهم، فإن أسعار الديون الحكومية هي معدل التضخم، وسعر الفائدة الاسمية، ومستوى سوق الأوراق المالية. وكل الأسعار الثلاثة تومض باللون الأخضر، فتشير إلى أن الأسواق تفضل أن تنمو الديون الحكومية بوتيرة أسرع مما تشير إليه التوقعات الحالية.عندما كتب كينث روغوف وكارمن راينهارت دراستهما المؤثرة بعنوان "النمو في زمن الديون"، طرحا السؤال التالي: "إن العجز الضخم وعمليات إنقاذ البنوك الملحمية قد تكون مفيدة في مكافحة دورات الانحدار، ولكن ما التأثير الذي تخلفه مستويات الديون الحكومية الأعلى على الاقتصاد الكلي في الأمد البعيد، وخاصة على خلفية من الشيخوخة السكانية وارتفاع تكاليف التأمين الاجتماعي؟". يرى روغوف وراينهارت أن "معدلات النمو تنخفض في كل من الاقتصادات المتقدمة والناشئة بعد بلوغ الديون العامة عتبة الـ90% من الناتج المحلي الإجمالي (السنوي)".بيد أن الخطأ الذي ارتكبه روغوف وراينهارت في تحليلهما ـ وهو الخطأ الكبير الوحيد في واقع الأمر ـ كان في استخدامهما كلمة "عتبة". ذلك أن هذا الاختيار الدلالي، جنباً إلى جنب مع الرسم البياني الذي أضافوه، ضلل العديد من الناس. على سبيل المثال، أدانت هيئة تحرير صحيفة واشنطن بوست مؤخراً ما أطلقت عليه نهج "لا تقلق، كن سعيدا" في التعامل مع عجز الموازنة وديون الحكومة في الولايات المتحدة، على أساس وجود "علامة الـ90% التي ينظر خبراء الاقتصاد إليها باعتبارها تهديداً للنمو الاقتصادي المستدام".لا شك أن هيئة تحرير واشنطن بوست أظهرت منذ بداية الألفية أنها لا تحتاج إلا إلى القليل من الدعم التجريبي لمزاعمها، ولكن تعبير "النمو في زمن الديون" كان سبباً أيضاً في تضليل المفوض الأوروبي أولي رين وغيره كثيرون ودفعهم إلى الزعم بأنه "عندما يبلغ الدين (الحكومي) نسبة 80% إلى 90% من الناتج المحلي الإجمالي فإنه يبدأ في مزاحمة النشاط الاقتصادي". ومن المعتقد على نطاق واسع أن راينهارت وروغوف أظهرا أنه إذا كانت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي أقل من 90% فإن الاقتصاد يكون في أمان، وأن النمو لا يصبح عُرضة للخطر إلا عندما ترتفع الأعباء عن 90%.ورغم كل هذا فإن هذه العتبة لا وجود لها. فهي نتاج مصطنع من لطريقة راينهارت وروغوف غير المَعلَمية: إلقاء البيانات إلى أربعة صناديق مرصوصة، حيث تخدم نسبة الـ90% كقاع للصندوق العلوي. وهناك في واقع الأمر انحدار تدريجي وسلس في معدلات النمو مع زيادة نسب الديون إلى الناتج المحلي الإجمالي ـ حيث تبدو نسبة 80% أفضل قليلاً من نسبة 100%.وعلى حد تعبير راينهارت وروغوف فإن علاقة الارتباط بين الديون المرتفعة والنمو المنخفض تشكل علامة مفادها أن المرء لابد يتحقق ما إذا كان الدين يشكل خطرا. حسنا، إنه كذلك في بعض الأحيان: إذ إن قدراً كبيراً من العلاقة يأتي من دول حيث أسعار الفائدة أعلى وأسواق الأوراق المالي أقل ازدهارا، وحيث يعني ارتفاع نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي تباطؤ النمو حقا.بيد أن جزءاً كبيراً آخر من العلاقة يأتي من دول حيث تكون معدلات التضخم أعلى عندما يكون الدين الحكومي أعلى. ولكن بعض العلاقة يأتي من دول حيث كان النمو بطيئاً بالفعل، وبالتالي حيث يكون ارتفاع نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، كما يقول لاري سامرز دوما، راجعاً إلى "المقام وليس البسط".كم يتبق إذن من الحيز في العلاقة بين الدين والأداء الاقتصادي في بلد حيث أسعار الفائدة منخفضة، ومعدل التضخم منخفض، وأسعار الأسهم مزدهرة، وحيث كان النمو في فترات سابقة صحيا؟ليس الكثير، في واقع الأمر، إن كان هناك أي حيز متبق. ففي الولايات المتحدة، تعلمنا على الأقل أن الخطر يظل ضئيلاً في تراكم المزيد من الدين الحكومي إلى أن تبدأ أسعار الفائدة ومعدلات التضخم في الارتفاع فوق المستويات الطبيعية، أو إلى أن تهبط سوق الأوراق المالية. وهناك فوائد كبيرة محتملة يمكن جنيها بمجرد حل مشاكل أميركا الحقيقية ـ انخفاض مستويات تشغيل العمالة والقدرة الراكدة ـ في الوقت الحالي.* جايمس برادفورد ديلونغ | James Bradford DeLong، مساعد وزير الخزانة الأسبق في الولايات المتحدة، وأستاذ الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، وباحث مشارك لدى المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية.«بروجيكت سنديكيت، 2017» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
متى تصبح الديون الحكومية خطيرة؟
07-05-2013