أصواتها السرية (1)

نشر في 29-04-2013
آخر تحديث 29-04-2013 | 00:00
 فوزية شويش السالم إنها تلك الأصوات التي تكمن في دواخل الكتاب بسرية تامة بعيدة تمام البعد عن علمهم ووعيهم بها، حتى تلوح فجأة في مشهد غامض كجنين لم يكتمل بعد ولم يعلن عن جنسه، لكنه أعطى إشارة بدء التكون والخلق لحامله.

وهو موضوع مقالي عن شعر امرئ القيس الشاعر الذي أنبت المشهد الأول أو كون البذرة الأولى لروايتي القادمة، ولن استطيع أن أحدد بدقة زمن كمونه في داخلي حتى انبعث مشهده الذي لن أذكره الآن إلا بعد ما أنتهي من كتابته في روايتي. وقت طويل تجمد فيه بداخلي بكمون خلته أنه ليس له أثر فيها، حتى فاجأني بانبثاق مشهد الرواية الأول الذي جعلني أعيد دراسة شخصيته وجوهر شعره الذي هو موضوع مقالة اليوم.

وقصة حياته معروفة للجميع لذا لن أكرر سردها، لكني سأذكر بعض ملحوظاتي عن زمن الشاعر وما ورد عنها في شعره، فمثلا الملاحظ أن أغلب من يقول الشعر العربي القديم هم من طبقة الأثرياء ثم جاءت مجموعة من الصعاليك وهم أقلية، وأنا لم أقرأ شعرا كتبه فلاح أو بناء أو خراز أو خباز أو أي صاحب مهنة وصنعة، فيبدو أن كتابة الشعر كانت وليدة حياة الترف، فمن يملك الحصان يستطيع أن يعرف صفاته ومحاسنه، ويسابق به الريح ليقنص الظباء والمها، ويطيب له التنقل والتأمل والسفر، من ملك الحياة الهينة استطاع أن يتأمل محاسنها وأن يعيش تفاصيلها حتى النخاع، ولا يملك هذه النعمة إلا من لا عمل له إلا قول الشعر والتباهي بريادته.

الغريب أن والده وهو ملك يمني نفاه بعيدا عنه بل أمر بقتله بسبب قوله للشعر، وهذا يعني أن الملوك يستعرون من قول الشعر أو أنهم فوق مستوى الشعراء.

الملحوظة التالية تتعلق بشخصية امرئ القيس ذاته، الذي يبدو أنه من جلب هذه المتاعب لحياته، فهو أصغر إخوته وكلهم رفضوا أو تقاعدوا عن أخذ الثأر من بني  أسد الذين قتلوا والدهم، وهو الذي انبرى لقتالهم ولم يتوقف عن مطاردتهم وحربهم حتى بعد هروبهم وطلبهم للعفو والمسامحة منه، وبقي الى آخر حياته في صراع معهم، ويبدو أن شخصيته كانت محبة للمناكفة والصراع وخلق المشاكل، فقد طلق زوجته لأنها فضلت بيت شعر لشاعر آخر، حين تنافسا بالقول وكل منهما قال للآخر أنا أشعر منك، وتحاكما إليها فقال امرؤ القيس قصيدته "خليلي مرا بي على أم جندب" فوصف الفراق وناقته وفرسه، كما قال علقمة قصيدته، فلما انتهيا فضلت زوجته أم جندب بيت شعر من علقمة على بيت شعر من زوجها، فلما سألها عن سبب التفضيل قالت: فرس ابن عبدة أفضل من فرسك، سمعتك زجرت وضربت وحركت وهو قولك:

فللساق الهوب وللسوط درة / وللزجر منه وقع أخرج منعب.

وفضلت عليه بيت علقمة بن عبدة التميمي الذي قال فيه:

وأقبل يهوي، ثانيا من عنانه، / يمر كمر الرائح المتحلب.

فما كان منه إلا أن طلقها في الحال بسبب تفضيلها لبيت شعر تم فيه وصف الحصان بصورة أفضل من الصورة التي صور فيها حصانه.

وكان كثير التدخل فيما لا يعنيه بقصد إظهار تفوقه وتميز شعره عن من يباريه، ويحكى أنه التقى "التوأم اليشكري" فتحداه بقول الشعر بأن يقول كل منهما بيتا يعقب فيه قول الآخر، فبدأ امرؤ القيس بقوله: أحار ترى بريقا هب وهنا؟

فقال التوأم: كنار مجوس تستعر استعارا.. فرد امرؤ القيس: أرقت له ونام أبو شريح.

فرد التوأم: إذا ما قلت قد هدأ استطارا.

قال امرؤ القيس: كأن هزيزة بوراء غيب.. فقال التوأم: عشار وله لاقت عشارا..

قال امرؤ القيس: فلما دنا لقفا أضاخ.. فرد التوأم: وهت أعجاز ريقه فحارا..

قال امرؤ القيس: فلم يترك بذات السر ظبيا.. فقال التوأم: ولم يترك بجلهتها حمارا.

وهنا لم يتحمل امرؤ القيس قدرة التوأم في مجاراته على قول الشعر، خاصة أنه لم يوجد من يستطيع أن يباريه ويبزه في قول الشعر، فقرر ألا ينازل ولا يتبارى بعد ذلك مع أي كان، وهذا يدل على شخصية لا تقبل المنافسة وذات عالية.

back to top