كان مشهد الشعر النسوي لايزال مضبباً رغم كل شيء، إذ ظلت الحرب الثقافية الذكورية مستعرة وشديدة الوطأة على المبدعات من الشواعر وسواهن، وظلت التحصينات الدفاعية ضد قيم الأنوثة وخطابها, وقيمها الفنية تتخذ أشكالاً وأنماطاً عدة من المواجهات: تبدأ باللامبالاة والإهمال، ثم تنتقل إلى الاستخفاف وعدم أخذ الأمر مأخذ الجد، وقد تتطور نحو التسفيه، فالهجوم والرد المضاد. هذه الحركة الدائرية المطردة تجيء "بوصفها بعض أدوات الفحولة في الدفاع عن ثقافة الفحول"، كما يقول عبدالله الغذامي متهكماً. ثم يستطرد: "إذ ليس للأنثى بوصفها كائناً ناقصاً أي نصيب من همسات شيطان الشعر، والشيطان لا يجالس إلا الفحول لأنه ذكر وليس أنثى. ولذا صارت العبقرية الإبداعية تسمى (فحولة) وليس في الإبداع (أنوثة). وإذا ما ظهرت امرأة واحدة نادرة وقالت بعض الشعر فلا بد لها أن تستفحل، ويشهد لها أحد الفحول مؤكداً فحوليتها وعدم أنوثيتها".
وقد عزّز الناقد نظرته إلى هذا الواقع الثقافي بتذكيرنا بالحرب التي خاضها حراس الثقافة الذكورية للدفاع عن فحولة (القصيدة العمودية) أمام مشروع (الشعر الحر) الذي اقترحته نازك الملائكة، وفنّد تكتيكات الدفاع الذكوري والكم الهائل من الجهود المقالية والنقدية التي بُذلت لتحقيق جملة من الأهداف، منها: إنكار الأولوية على نازك الملائكة ومنعها من شرف الريادة "فالفحولة لا يكسرها إلا فحل". ومنها محاولة تحويل (الكشف) عن مقاصده التجديدية وتهوين أمره. ومنها السخرية بالإنجاز النقدي وبالتجرؤ على التنظير من قِبَل امرأة. هذه المداولات النقدية الثرة وسواها حول مشروع تقدمه امرأة شاعرة، يبدو في ظاهره علمياً، لكنه "في جوهره ليس سوى خطاب فحولي، استنهض ذاته، وحكحك أدواته وأسنّة أقلامه لمكافحة هذه الأنثى المتجرئة على سلطان الفحولة وعمودها الراسخ".ورغم ذلك فإن الرؤية الاستشرافية للمشهد الشعري النسوي في النصف الثاني من القرن العشرين، تضعنا أمام صورة بانورامية لأهم سماته وخصائصه. منها النزوع نحو الذاتية، والذاتية بما تعنيه من انكفاء وسفر نحو الذات، تأتي ردة فعل طبيعية إزاء وسط ثقافي واجتماعي يحجّم من قدرات المرأة، ويحاصر جنوحها نحو التغيير والخروج عن التقاليد والأعراف، سواء كانت اجتماعية عامة، أو فنية تخص الشعر. ومع الذاتية تأتي حدة العاطفة، واستمدادها من اللاشعور، والرغبات المكبوتة، وأحلام اليقظة. ومن السمات البارزة أيضاً الميل إلى الحزن واجترار الآلام والعزلة الروحية وتمني الموت. ومنها النزوع نحو عوالم الغموض والماوراء والمجهول هرباً من ضيق الوجود المادي. ومنها البحث عن الحب واتخاذه وسيلةً للخلاص والتطهّر والميل إلى الثورة والتمرّد والجموح، سواءً في الشكل أو المضمون. ثم تأتي تلك الموسيقى والإيقاع الشعريين المتميزين بالخفوت والهمس والترددات القصيرة المتقطّعة، مع تخيّر اللغة اللينة المطواعة، والتعابير اليومية المهملة اللصيقة بالحياة، مع ميل إلى الإطالة والاستطراد، والوقوف عند التفاصيل.ولعله لا يخفى على المتأمّل في هذه السمات والملامح مدى تمثيلها للموقف المضاد الذي تتخذه المرأة الشاعرة، وكونه ردة فعل طبيعية إزاء ما مورس ضدها من حَجْر وتحجيم وزجر، طالما تبناه الواقع الثقافي وظهر في قيمه الفكرية والفنية.ورغم ذلك فإن هذه السمات مجتمعة، سواء تعلقت بالمضمون أو بالأدوات الفنية، كانت قادرة إلى حد كبير على صنع (شعرية نسوية) ذات طابع مختلف ومغاير، واستطاعت أن تأتي "بقيم إبداعية جديدة، تعتمد على المُهمّش والضعيف، واليومي والحياتي والإنساني، مقابل الكامل والقوي والمتعالي، مما هو من صفات النموذج الفحولي".ولكن يبقى الإنجاز الأهم لهذه الشعرية النسوية متمثلاً ليس في إلحاحها على تكريس هذه القيم المغايرة فقط، وإنما في قدرتها على تسريب هذه القيم الفنية إلى روح الفحولة الشعرية عامةً وكسر صلفها وتعاليها. ومن هنا لم يعد النص النسوي وما يطرحه من قيم فنية حكراً على المرأة وشعرها، وإنما أصبح نسقاً وخطاباً شعرياً حديثاً يتبناه الشعراء من الرجال أيضاً، وتظهر تأثيراته في نصوصهم، وباتت سمة (الأنوثة) عدوى فنية قادرة على فرض قيمها البازغة على شعرهم وعلى المشهد الأدبي عامةً.
توابل - ثقافات
تكريس النسوية: خطاب شعري جديد (4)
27-08-2013