من بين الأدباء الكبار الذين استلهمت السينما المصرية إبداعاتهم، حظي الكاتب الكبير نجيب محفوظ بنصيب الأسد من اهتمام كتاب السينما ومنتجيها ومخرجيها، وانعكس ذلك على النقاد الذين تفرغوا لدراسة الأفلام المأخوذة عن رواياته وتحليلها، وتجاهلوا الأفلام المأخوذة عن قصص الكاتب الكبير يوسف إدريس (1927 - 1991) الذي مرت الذكرى الثانية والعشرون لرحيله مطلع أغسطس، ولم تلقَ اهتماماً يعكس مكانة المبدع الذي هجر الطب إلى الأدب، وأصبح عميد القصة القصيرة في العالم العربي وأحد أهم فرسانها.

Ad

ظلمت السينما الروائية الطويلة يوسف إدريس عندما تاجرت بأفكاره، ولعبت على الإثارة الحسية في أدبه، وفشلت في استيعاب مضامين قصصه ورسائلها؛ فباستثناء فيلمي «لا وقت للحب» (1963) و{الحرام» (1965)، اتسمت أفلام: «العيب (1967)، حادثة شرف (1971)، قاع المدينة (1974)، على ورق سوليفان (1975)، النداهة (1975)، عنبر الموت (1989)، و{حلاوة الروح» (1990) بالسطحية والضحالة، بل يجهل كثيرون أفلاماً مثل «سجين الليل (1963)، ثلاث قصص (1968)، خمس ساعات» (1968) المأخوذة عن قصصه، فيما صار فيلم «العسكري شبراوي» (1982) المأخوذ عن قصته القصيرة «مشوار» مضرباً للمثل في إهدار الرؤية وخيانة تحويل النص الأدبي إلى فيلم سينمائي، ما دفع إدريس إلى التبرؤ منه، وأعلن، على غرار نجيب محفوظ، أنه مسؤول عن النص الأدبي فقط.

كذلك لم يرض يوسف إدريس عن فيلم «حدوتة مصرية» (1982) الذي استوحاه المخرج يوسف شاهين من جراحة القلب الدقيقة التي خضع لها إدريس، ولم يجد غضاضة في اعتماد الكاتب مصطفى محرم على مقالاته الصحافية عن الأغذية المشعة لدى كتابته سيناريو وحوار فيلم «عنبر الموت»، لكن علاقته بالسينما المصرية بدت كأنها انتهت بعدما فقد الثقة بها وبأهلها!

رحل يوسف إدريس في الأول من أغسطس 1991، لكن قصصه القصيرة تحولت إلى «أيقونات مقدسة» لدى جيل من المخرجين الشباب، أدركوا أنهم بصدد درر ثمينة ولم يترددوا في وضع يدهم عليها، بعدما نجحوا في استخراج مكنوناتها الفكرية والبصرية، كما فعل المخرج الشاب أشرف سمير عبد الباقي في فيلم «بيت من لحم» (45 دقيقة /1991) الذي قدم رؤية كلاسيكية أخاذة للقصة الأشهر في رصيد كاتبنا الكبير، استعان فيها بممثلات روسيات أبدعن في تجسيد الشخصيات الدرامية، وكأنهن ولدن في الحارة الشعبية المصرية.

 بعد ذلك لم يخلُ عام من تقديم قصة «بيت من لحم» في مشاريع تخرج طلاب الأكاديميات ومعاهد السينما، ممن وجدوا فيها فرصة لإظهار قدراتهم وإمكاناتهم، مثلما وجدوا في تراث يوسف إدريس نبعاً صافياً نهلوا منه بغزارة.

 يرجع الفضل إلى قصة «أكان لا بد أن تضيئي النور يا لي لي» للكاتب الكبير في إطلاق موهبة المخرج الشاب مروان حامد، بعدما قدمها في فيلم «لي لي» (45 دقيقة / 2005 ) الذي يُحذر من قوة الغواية، وعن قصة «19502» قدم المخرج الشاب محمد محسن فيلمه القصير «رقم قومي» (2006) الذي يتناول أزمة شاب ينتابه شعور بأنه كمٌ مهملٌ في المحيط الذي يعيش فيه، وعندما يموت لا يدري من حوله أنهم مسؤولون عما جرى له.

وعن قصة «أكبر الكبائر» يُقدم المخرج الشاب يوسف هشام فيلماً في العنوان نفسه (15 دقيقة /2007) يتبنى الرؤية الجريئة نفسها التي حذر كاتبنا يوسف إدريس فيها من خطورة المغالاة في التدين وتداعياته السلبية على حياتنا.

عرف أبناء السينما الروائية القصيرة الطريق إلى «الكنز الاستراتيجي» الذي عرفناه باسم «يوسف إدريس»، ولم يفاجئنا المخرج الشاب طارق خليل عندما فتش ونقب وعثر على قصة «حامل الكرسي» لإدريس، بدأها بقوله: «يا حَمَّالَ الكراسي، لقد حَمَلْتَ ما فيه الكفاية، وآنَ لك أنْ يَحْمِلَكَ كُرْسِيّ ... هذا الكرسِيُّ العظيم الذي لم يصنع مثله، لك أنتَ وَحْدَكْ. احْمِلْهُ وَخُذْهُ إلى بيتك، وضعه في الصدر، وتربع فوقه طول عمرك. وحين تموت يكون لأبنائك»، وفور أن التقط المخرج الشاب نزعة السخرية اللاذعة لكاتبنا الكبير، ومناهضته الواضحة لاحتكار السلطة، كتب سيناريو فيلم قصير تولى تصويره واختار له عنوان «كرسي الفرعون» (11 دقيقة / 2010)!

أحب جيل الشباب روح التمرد التي تطل من بين ثنايا سطور يوسف إدريس، فضلاً عن ثورية أفكاره وشخصياته وجرأته في اقتحام  المناطق الوعرة، ورفضه القاطع للمواقف الرمادية، ودعوته الدائمة إلى التغيير، فأنصفوه في أفلامهم، ونظروا إليه بوصفه قدوتهم ومُفجر ثورتهم.