حين وقعت عيني على مدينة لندن لأول مرة (الأيام الأولى من عام 1979) رأيت أول ما رأيت الباص الأحمر ذا الطابقين. الباص ذاته الذي ألفته في بغداد منذ الطفولة. مدينة الإضاءة الداخلية، حيث لا شيء مغر في الخارج. مدينة الأناة والثقافة التي تتوقف أمام أي خطوة للتغيير بحذر المرتاب.

Ad

ولعلمك فإن هذه المدينة هي الوحيدة التي لم تتحمس لثورة. كرومويل جاء لإعطاء سلطة للبرلمان، مُحررة من سطوة الملك. ولم يخلع الملك إلا مضطراً. وظل الانكليزي الساعي للتغيير على قلق، حتى أعاد الملكية ثانية معززة، دون أن يفقد سلطة وهيبة البرلمان.

ثم رأيت الانكليزي كثير الابتسام: "هلو سويت"، "هلو حبي"، تقول نادلة البار أو المقهى حين تُقبل لخدمتك. والانكليزي لا يميل، مثلي، إلى إظهار عضلات مشاعره الوطنية والقومية. ولا أعرف ما إذا كان يحتقرها كما أفعل. والشوارع هنا لا تزدحم بالمقاهي، فلا مهرب من البقاء في البيت، والبقاء في البيت يمنعني من الهرب من نفسي إلى الآخرين، إلى المقهى.

هذا ببساطة عدد من الفوارق التي التقطتها ببراعة، في الأيام الأولى التي دخلت فيها الى لندن. وبفعل هذه الفوارق قررت اتخاذها منفى، ولا أجرؤ أن أقول مُستقراً. حبي للندن لم يكن إذاً غير استعداد إيهامي لما أريد أن أكون عليه في المستقبل. وما حصل في المستقبل لم يكن إلا هذا التمزق بين زمنين، لا أشعر ولا قناعة لي بأني أنتمي لأيّ منهما: الزمن الانكليزي الذي استعصى عليّ، فلم أتجاوز عتبة بابه حتى هذه اللحظة. وزمن الذاكرة، أو زمني الماضي الذي تلاشى دون أثر.

حين سافرت إلى بغداد أول مرة بعد سقوط نظام صدام حسين، بقيت هناك ثلاثة أسابيع، حاولت فيها أن أعبّئ كياني بالحياة من جديد. بدوت كمن يعّبئ كيساً بقش، بالرغم من أني بدوت بالغ النشاط والأريحية، وأحسست في داخلي أنني كذلك. ولكن النشاط والحيوية اللذين صحباني كانا سهليْ المكسر.

أذكر أني كنت أرعاهما باحتراس بالغ، تماماً كما يرعى شاب عاشق فتاة لم يكن على يقين من عواطفها تجاهه. نعم كان بيت أخي الكبير وأبنائه وأحفاده يشبه بيتنا القديم الذي اقتُلع من جذوره وتلاشى: رائحة خبز التنور في الباحة خارج البيت، النخلة إلى جوار باب مدخل الحديقة الأمامي، العشب المحترق الذي يغمره التراب، مدخل البيت المُشرع حيث لا تنقطع عنه أقدام الداخلين والخارجين من الأهل والجيران، ثمة مُتكأ في كل ركن من الغرف، التي لا تفرق بين غرف النوم فيها وغرف الجلوس، مركزية المطبخ ذي الحركة الدائمة التي لا تهدأ، ثم الكيانات البشرية بدمها وعظمها، وهي تتجه، وتقاوم، وتهاجم، وتتصالح، وتستغفل، وتتنازل... هذه عناصر كنت أراها حية داخل الزمن هنا. كان الزمن الذي يتحرك لا يعبرها، أو يخترقها وهي غافلة، بل كلاهما واحد في تشكيل لوحة الحياة.

كنت أتأمل هذا وأفهمه بدقة عالية. أفهمه لأني أفتقد إليه. أو أشعر أني افتقدته ذات يوم في عام سفري، وتجاوزي الحدود إلى زمن آخر. كنت أتأمل وأفهم المشهد بفعل هذه المقارنة بين زمنين لم أعد، للأسف، أنتسب لكليهما. لم أجرؤ، على سبيل المثال، على اقتحام المشهد والدخول فيه، وادعاء أني عنصر طبيعي من عناصره. سمكة تعود إلى مجرى مائها القديم. يا للأكذوبة لو فعلت وادعيت.

ما كان لنفر من العائلة الصاخبة أن يتجرّع اقتحامي المشهد بالصورة التي تخيلتها. لقد تقبلوني بينهم بهذا الاحتفاء المخلص الصادق لأني كنت أبدو لهم، حتى لحظة المغادرة، بثياب المفاجأة الملونة، عنصر استُعيد من داخل حلم، أو قطعة ارتمت بينهم على حين غرة من مخيلة ما كانت في الحسبان. الزمن الذي يجمعني بهم إيهامي عند كلينا. زمني الشخصي، الحقيقي اللصيق بالمكان والمحيط والأصدقاء قد تلاشى إلى الأبد.

والآن، أي زمن أنتمي إليه بين زمنين متلاشيين غير زمن ثالث أصطنعه لنفسي. زمن داخلي لا يشفّ عنه غير الشعر.