فوجئ الرأي العام في العالم العربي بخبر مصرع الفنانة الكبيرة سعاد حسني مساء 21 يونيو عام 2001... وجاء في تفسير الخبر أن الفنانة المعروفة انتحرت بإلقاء نفسها من الطابق السادس حيث الشقة التي كانت تقيم فيها مع صديقتها نادية يسري على سبيل الاستضافة في برج «ستيورات تاور» في قلب لندن.

Ad

والتزمت الشرطة الإنكليزية الصمت حتى يظهر تقرير الطب الشرعي بينما كانت الجثة قد نقلت من جراج أسفل البرج إلى مشرحة مستشفى ويستمنستر في منطقة ميدافيل في قلب لندن... وعلى رغم الظروف شديدة الغموض التي أحاطت بالحادث، حاول البعض أن يصوره على أنه انتحار لجأت إليه السندريلا بعدما أصابها اليأس من الشفاء وسبب لها الاكتئاب فقدان الرغبة في الحياة. بل قالوا إنها اختارت يوم عيد ميلاد عبد الحليم حافظ صاحب أعظم قصة حب في حياتها ليكون تاريخ وفاتها! لكن بدأت دلائل قوية تظهر فجأة وبشكل مثير على أن سعاد حسني لم تنتحر وإنما قتلت... وكانت أولى المفاجآت مع وصول جثمان الفنانة الكبيرة إلى القاهرة وخبر القبض على نادية يسري التي كانت على الطائرة نفسها التي نقلت الجثمان، وهي أيضاً صاحبة الشقة التي لقيت السندريلا مصرعها من شرفتها... وبدأت علامات استفهام عريضة تحيط بنادية يسري، وعلاقتها بالحادث، لا سيما أن النيابة أمرت بالقبض عليها فور وصولها إلى العاصمة المصرية!

كانت القرائن تشير بقوة إلى اتهام نادية يسري بأنها ساعدت أو شاركت أو سهَّلت جريمة قتل سعاد حسني والتخلص منها إلى الأبد، بعدما أعلنت السندريلا أنها ستنشر وتذيع مذكراتها الخاصة... ويبدو أن تلك المذكرات أثارت أحد كبار المسؤولين في مصر والذي كان في وقت سابق ضابطاً في المخابرات وحاول تجنيد سعاد حسني آنذاك. هذا الضابط الذي اتهم أيضاً في قضية انحراف المخابرات العامة عام 1968 ثم عاد للظهور بشدة في عهد الرئيس السادات ثم ازدادت سطوته واشتهر بنفوذه في عهد الرئيس السابق مبارك... هو نفسه بطل الحكاية التي ترددت بقوة عن رغبته في التخلص من سعاد حسني قبل أن تتحول مذكراتها إلى فضيحة سياسية مدوية، خصوصاً أن سعاد شعرت أن هذا المسؤول نفسه هو الذي حرض بعض المجلات ضدها لتشوه صورتها، وهو الذي كان وراء قرار وقف علاجها على نفقة الدولة. بالتالي، قررت أن ترد له الصفعة صفعات وتضرب عصفورين بحجر واحد، فتحقق ثروة كبيرة ثمناً لمذكراتها وتجد حلولاً سحرية لأزمتها المالية. ومن ناحية أخرى، تنتقم من الرجل الذي أفسد كثيرات من فنانات مصر في الستينيات ثم أراد أن يظهر أمام الناس في عهد مبارك بقناعه السياسي والحزبي الكبير! لكن كيف سيصل هذا «الأخطبوط « إلى سعاد حسني في لندن ويقضي عليها قبل أن تنشر مذكراتها؟!. الإجابة ببساطة، كما ذهب الفريق الذي يؤيد هذا الاتجاه، تؤكد أن هذا الرجل لم ينفذ الجريمة بنفسه وإنما من خلال أذرع ومساعدين تستخدمهم الأجهزة الأمنية رفيعة المستوى في الاغتيالات السياسية بالتعاون مع أجهزة استخبارتية في دول أخرى! من هنا أحاطت الشبهة بالسيدة نادية يسري قبل أن يتم التحقيق معها أمام النيابة العامة في القاهرة... لكن يثور هنا سؤال: لماذا نادية يسري؟!

الأيام والساعات الأخيرة

اعتمدت الشهبة التي دارت حول نادية يسري على أن سعاد حسني كانت قد قررت العودة إلى مصر وحزمت حقائبها، بل وأرسلت فعلاً حقيبتين إلى شقتها في الزمالك، وتأهبت لمغادرة المصحة التي كانت تمضي فيها فترة النقاهة. لكنها وبالمصادفة قابلت صديقتها القديمة نادية فعرضت عليها الأخيرة الإقامة معها في شقتها حتى يحين موعد سفرها إلى مصر. كان مصدر الشبهة أن اللقاء كان مدبراً ومرتباً ومخططاً لجر حسني إلى شقة نادية ثم التخلص منها هناك.

لكن المفاجأة الثانية كانت في قرار النيابة العامة بإخلاء سبيل نادية يسري بعد التحقيق الذي تم معها حول ملابسات الحادث. ورغم حيادية النيابة العامة، إلا أن البعض عاد ليشيع أن المسؤول الكبير كان وراء قرار الإفراج ليحمي أدواته التي ينفذ بها أغراضه وأهدافه، خصوصاً وقد ألقيت إشاعة أخرى بين الأوساط المعنية تذهب إلى أن خلافات شديدة نشأت بين سعاد وبعض الشخصيات العربية فقرر كبيرهم الانتقام منها بعدما سخرت منه ورفضت صداقته غير البريئة، وكان رد فعله الانتقام بالشكل الذي أنهى حياة السندريلا... وهذا الاحتمال الذي لم يلق أي تجاوب ولم يصادف أي مصداقية اعتمد على شهادة بعض الجيران في برج ستيوارت الذين أكدوا أنهم سمعوا صوت شجار داخل الشقة رقم «A 6» قبل الحادث بربع ساعة وكان بين الأصوات صوت امرأة تقاوم وتدافع عن نفسها! لكن معظم المراقبين قالوا إن الهدف من إشاعة انتقام أحد أبناء الجالية العربية من سعاد حسني هو إبعاد النظر عن المسؤول المصري الكبير ضابط المخابرات السابق، وإن شهادة الجيران الذين سمعوا صوت مشاجرة داخل شقة سعاد قبل الحادث لا تنفي أن الذين حملوها وألقوا بها من الشرفة كانوا من اتباع ضابط المخابرات المصري السابق. هؤلاء رجحوا أيضاً اتهام هذا المسؤول الكبير بأنه صاحب المصلحة الوحيد في التخلص من سعاد حسني قبل أن تفضحه في مذكراتها... كذلك اختار برج ستيوارت باعتباره المكان الشهير في لندن الذي تتم فيه عمليات القتل بدم بارد ويظل الجاني فيها مجهولاً ربما إلى الأبد.

حكاية برج ستيوارت

لم تكن سعاد حسني أول قتيلة مصرية في برج ستيوارت. ولم تكن أول من يتم التخلص منهم بالسقوط من الأدوار العليا. فما هي حكاية هذا المبنى المشؤوم؟!

يقع مبني ستيوارت تاور في حي ميدافيل في وسط العاصمة البريطانية لندن... ولا يدري أحد سر ارتباط العرب عموماً والمصريين خصوصاً بهذا المبنى، فثمة شقق عدة فيه يسكنها مصريون من بينها شقة نادية يسري التي كانت تعمل في فندق شيراتون في القاهرة ثم انتقلت فجأة إلى لندن لتعمل في مجال الترجمة والعقارات! وشقة الكاتب الصحافي الكبير محمود السعدني، وشقة أخرى لصديقه الحاج إبراهيم نافع، وثالثة للكاتب المسرحي الشهير ألفريد فرج. ومن المفارقات الغريبة أن الليثي ناصف، قائد الحرس الجمهوري الراحل، لقي مصرعه في المبنى نفسه، وقيل أيضاً إنه انتحر! (سنتناول قصته في حلقة مقبلة). والأكثر إثارة كان حادث مصرع أشرف مروان الذي تصدر أخبار جميع وكالات الأنباء العالمية... والأكثر غرابة أن سكان البرج طلبوا على سبيل السخرية تغيير اسم البرج إلى «سويساير تاور» ومعناها بالعربية» برج المنتحرين»!

ومن بين الأجانب الذين انتحروا في ظروف غامضة أيضاً وبالطريقة المعتادة نفسها، بالسقوط من إحدى شرفات البرج، فتاة من روسيا تبلغ من العمر خمسة وعشرين عاماً... وشاب أميركي نزل ضيفاً على إحدى الشقق في الدور الخامس عشر وبعد تناوله العشاء مع أصحاب الشقة وتمضية بعض الوقت معهم فوجئ به المارة يسقط من هذا الارتفاع الشاهق... وانتهى تقرير اشرطة الإنكليزية إلى قيد الحادث باعتباره انتحاراً... كالعادة!

شاهد على الحادث

كان لا بد من الاستماع إلى شهادة الكاتب الصحافي أكرم السعدني الذي يقيم في برج «ستيوارت» الذي يسكنه 400 ساكن من خلال 120 شقة صغيرة «ستديو». قدم أكرم السعدني في شهادته إجابات مهمة عن أسئلة حائرة... لماذا اعتقد كل من شاهد الجثة أنها لرجل وليست لامرأة؟ وبالتالي لم يتعرف أحد إلى سعاد حسني إلا بعد وصول صديقتها نادية يسري! ماذا كانت ترتدي سعاد وقت الحادث؟ ولماذا كانت الجثة شديدة البياض؟ وما هي الإصابات التي حددها الطبيب المصري في الجثة؟ بل يوضح أكرم السعدني أيضاً لماذا رفضت السندريلا نشر صورها وهي ترتدي الحجاب على أغلفة بعض المجلات.

يقول أكرم:

«... كنت أقرب مصري إلى الحادث وقت وقوعه، حينما انطلقت في البداية صرخة مروعة من الطابق السادس أعقبها صوت ارتطام شديد بالأرض، وعلى رغم ذلك كله فإن أحداً من السكان لم يهتم بالأمر في ما عدا طفل صغير اسمه أحمد عبد اللطيف إنكليزي الجنسية لوالدين من المغرب الشقيق... كان أحمد يقف يتابع المأساة وقد أصابته حالة من الذهول فاعتقد أن ما يراه ليس إلا مشهداً سينمائياً، ولكنه انتظر أن يقوم الشخص الذي ألقي بنفسه من الطابق السادس من على الأرض، وطال انتظاره ربما لعشرة دقائق كاملة حتى أدرك أنه ليس أمام مشهد سينمائي فانطلق الطفل الذي يبلغ من العمر 9 سنوات إلى والديه يحكي لهما ما شاهده... وشعرت السيدة إيمان، أم أحمد، بأن ما يقوله ابنها فيه شيء من الصدق فانطلقت إلى الشرفة فوجدت جثة ملقاة فوق الأرض فأسرعت مستخدمة سلالم الحريق ونزلت إلى حيث الجراج فوجدت أمامها جثة هامدة بلا نبض... وأسرعت السيدة إيمان بابلاغ حارس العقار وقامت بنفسها بالاتصال بالبوليس، ولكن بلاغها جانبته الدقة عندما أفادت بأن الجثة لرجل يعتقد أنه تخلص من حياته بالقفز من الدور السادس!».

ويضيف أكرم السعدني:

«... لأنني أقيم في الأستوديو المقابل لمكان حارس العمارة فقد وصلت إلى أسماعي أصوات لم أعتدها، وكان بصحبتي صديقي الطبيب المصري المعروف الدكتور محمد الوحش. خرجنا معاً في محاولة لمعرفة ما يجري فإذا بالسيدة إيمان تطلب المساعدة لأن شخصاً حاول الانتحار وربما يكون على قيد الحياة. فعلاً، قدم الدكتور الوحش نفسه إلى الحارس فاصطحبه إلى حيث مكان الحادث، وللحقيقة لم أستطع الذهاب معهما، واكتفيت بمراقبة المشهد من المونيتور الخاص بالحارس. بمجرد وصول الدكتور الوحش إلى مكان الجثة، قام بإجراء الكشف عليها، وفي التوقيت نفسه وصلت عدة سيارات للبوليس والإسعاف، ونظراً إلى شدة الارتطام تاهت الملامح تماماً وتهشمت العظام وحدث التواء كامل في القدم اليمني لدرجة أنها كانت ملاصقة تماماً للجسد، ولكن بشكل عكسي فقد كانت بموازاة اليد اليمنى تماماً. أما القفص الصدري فقد إصابته الكسور وحدث نزيف من الأذن اليمنى وتحولت الشفاه إلى اللون الأزرق الداكن... أما البشرة نفسها فكانت شديدة البياض وسألت الدكتور الوحش عن سر هذا البياض فقال هذا بفعل نزيف حاد حدث في تجويف البطن بسبب انفجار الطحال. وأكد الوحش أن الوفاة حدثت في الحال وعندما جاءت الإسعاف قام الأطباء والممرضون بشق «التريننج سوت» وكان أزرق اللون واكتشفوا أن الجثة لسيدة وإن كان شعرها قصيراً بدرجة غير معتادة بالنسبة للسيدات، وظلت الجثة راقدة في جراج «ستيوارت تاور» أمام سيارة بيجو يمتلكها الأديب ألفريد فرج... وقد استبعدت تماماً أن تكون سعاد حسني قد انتحرت لأسباب عدة أن فسحة الأمل في داخلها كانت تحتل مساحة عريضة... وأن سعاد كانت واثقة من أنها ستعود كما كانت السندريلا التي رقصت كما ترقص الفراشات وغنت فأدخلت السعادة على القلوب ومثلت فأبهرت كل من رآها... ولهذا لم تبخل على علاج نفسها وإنقاص وزنها في مصحة برمنجهام وانتظمت في التردد على عيادة الدكتور هشام العيسوي طبيب الأسنان المصري الذي زرع بعض الأسنان لها ووضع كل إمكاناته الطبية والعلمية تحت أمرها بشهامة ابن البلد المصري. كانت سعيدة بالرجيم القاس الذي تحملته حتى وصلت إلى الوزن الذي تريده. لكن كان يضايقها أن البعض كان يعرض عليها حفنة من الدولارات ليصورها وهي ترتدي الحجاب ليضع هذه الصورة غلافاً لإحدى المجلات... على رغم حاجتها إلى المال رفضت العرض بكل كبرياء.. كانت واثقة من قدرتها على العودة إلى الأضواء وتحقيق الكسب الذي تتعيش منه.

لم تحتمل السيدة «جنجاه» شقيقة سعاد حسني الصمت على أسرار مصرع شقيقتها الفنانة الكبيرة، وأقسمت أن دم سعاد لن يضيع هدراً، وأنها سوف تطارد الجاني الهارب حتى آخر نفس في حياتها... وفعلاً أقامت عدة دعاوي قضائية اختصمت فيها البوليس الإنكليزي أمام القضاء البريطاني... وتحمس المحامي الكبير عاصم قنديل للقضية. وعلى رغم إصرار القضاء الإنكليزي على موقفه المؤيد لتحريات البوليس وحفظ التحقيقات لم ييأس المحامي الكبير وكشف النقاب أخيراً في أعقاب ثورة يناير عام 2011 عن أسماء المتهمين الذين دارت حولهم الشبهات وعلى رأسهم صفوت الشريف أمين عام الحزب الوطني قبل الثورة وضابط المخابرات السابق. وحبيب العادلي وزير الداخلية حينئذ.. وحدد المحامي الكبير سيناريو المؤامرة التي أشرف عليها صفوت الشريف وانتهت بمصرع سعاد حسني.

البقية في العدد المقبل

مع مفاجأة ننفرد بها