تشغل قضية الهوية وما تحمل من إشكاليات بال المثقفين والمفكرين في مصر راهناً، بعد الجدل الذي تشهده البلاد حول تحديدها ووضعيتها في الدستور الجديد، وقد اتسعت دائرة الخلاف حول مدى إظهار الخلفيات الثقافية والعناصر المكونة لها في نص الدستور، ما يفتح باب التساؤل الواسع: من نحن؟

Ad

الجدل الحاصل حول الهوية المصرية ألقى بظلاله على مؤتمر عقده المجلس الأعلى للثقافة بعنوان {ثقافة مصر في المواجهة} ناقش فيه مبدعون ونقاد الثقافة وهوية الدولة. 

قال الناقد الأدبي الدكتور شريف يونس إن الأزمات التي مرت بها مصر في القرن العشرين، كانت بسبب الهوية، مشيراً إلى أن الهوية هي ما يحدده الأفراد بأنفسهم، وليس ما يفرض عليهم، ولفت إلى أن محاولة فرض هوية بعينها على المجتمع بأكمله غرضها فرض مشروع استبدادي، {لذا لا نحتاج إلى الدفاع عن الهوية بل الدفاع عن مفهوم الحرية}.

بدوره أوضح الدكتور حازم حسني أن {الهوية إذا استخدمت لوصف الدولة، لا يعني ذلك أن الدولة شمولية، ولا تؤمن بالتعددية الثقافية أو الحرية الشخصية، إذ لا وجود لما يسمى هوية الدولة، بل هويات أفراد، فكل إنسان يحافظ على هويته، هكذا تتناسب الهويات وينشأ النسيج الوطني، ما يجعل الهوية ديناميكية متغيرة}.

أما الدكتور فتحي أبو العينين فيؤكد أنه مع تفجر ثورة 25 يناير زاد الاهتمام بمسألتي الهوية والمواطنة اللتين طرحتا كقضيتين تحتلان تفكير المفكرين والسياسيين في مصر، والإعلام وعامة الناس بعدما كانوا غير مبالين بالمواطنة أو الهوية. 

وأضاف أبو العينين أن {مسألة الهوية تبرز بصفة خاصة عندما يمر المجتمع بتغيرات سياسية، أو أحداث ضخمة مثل الحروب، الثورات، النقلات النوعية التي تهز المجتمع، وتجعل الناس يطرحون أسئلة، موضحاً أن المعاني التي يحملها مفهوم الهوية لا يمكن حصرها في مفهوم واحد، ومن يحصرها في مفهوم واحد، فهو بذلك يريد تشكيل المجتمع على ما تراه في مصلحتها}.

 

مزيج حضارات

 

يقول الدكتور محمود إسماعيل، أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة عين شمس، إن تاريخ مصر متنوع ولا يقتصر على الفترة الإسلامية، وهي من دون شك متغلغلة في كل مصري مسلم ومسيحي، وأن ما يميز المصريين أن الدين مكون رئيس في ثقافتهم، سواء للمثقف أو الرجل البسيط، أو حتى أطفال الشوارع.

يضيف: {الخلاف حول هوية مصر يذكرني بما قاله المفكر الفرنسي ميشيل فوكو في كتابه {حفريات المعرفة}، إذ ذكر أن سطح الأرض يتكوّن من الرمل والحجارة لكنها تحمل في باطنها ثروات متنوعة من بترول ومعادن غنية، وهكذا هي جوانيه الشخصية، فهي عبارة عن مزيج من حضارات متنوعة أعطت للمصري السمات المتسامحة والمعطاءة والمحبة للدين}.

بدوره أوضح الشاعر حسن طِلب أنه يجب النظر إلى التاريخ ليس باعتباره أزماناً محددة بعصور، إنما ينظر إلى التاريخ على أنه وعاء تتحرك فيه الثقافة بأثرها: علوم وفنون وتجارة، وحركة لا تنقطع على مجرى التاريخ، ومنجزات الحضارة ومكانتها بين الشعوب الأخرى.

أضاف طِلب أن الوعي التاريخي يدلنا على أن قيام الهوية على أساس الدين، لم تكن موجودة على مر العصور في مصر، وعندما أراد البعض فرضها بالقوة فشلت، ما يؤكد أن الدين علاقة شخصية بين الإنسان وربه، ومن يريد أن يخضعنا للهوية الدينية فهو بذلك يخالف التاريخ.

 

أعمال حائرة 

 

تناولت أعمال إبداعية قضية الهوية، وكتب عنها كبار الأدباء، غير أن الحيرة كانت سيدة الموقف، فغالبية الأبطال والشخصيات التي عبرت عن قضية الهوية كانت حائرة ومحيرة، وأطلقت تساؤلات من دون إجابات، نجد ذلك في غالبية أعمال نجيب محفوظ منذ مرحلة كتابته للروايات التي تستلهم التاريخ الفرعوني، إلى مرحلته الواقعية وحتى الذهنية، وعلى لسان أبطاله في {ثرثرة فوق النيل}، حيث الشخصيات الحائرة اللاهية التي تبحث عن نفسها، بعدما أصيبت بإحباطات الواقع، وفي الثلاثية كمال عبد الجواد الذي فقد بوصلته وتحصّن بوحدته وحبه من طرف واحد قائلا: {الذين يحبون لا يتزوجون}. كذلك أبطاله التائهون في {السمان والخريف} و{الطريق} وحتى {أولاد حارتنا}، وبقية أعماله نجد فيها ملمح البحث عن الذات والهوية 

وفي روايته {الشحاذ} نجد بطله {عمر الحمزاوي} يمثل وضع {خسران الهوية لا يعرف ذاته ولا يستطيع تحديد إرادته، وأولى درجات خسران الهوية يمثّلها انقطاع {عمر الحمزاوي} عن طباعه الثابتة المألوفة، وأضحت أحوال نفسه المريضة إحدى علامات ذلك الانقطاع، {لا أعتقد أنّي مريض بالمعنى المألوف ولكنّي أشعر بخمود غريب} .

ومن الشخصيات التي أبرزت القضية بوضوح بشر عامر عبد الظاهر في نص درامي كتبه أسامة أنور عكاشة وقدم في مسلسل {زيزينيا}. كان يعاني بشدة بحثاً عن هويته، فهو من أم إيطالية وأب مصري ويعيش في مدينة الإسكندرية، فوسط الجاليات الأجنبية يعيش كإيطالي ويرتدي {البذلة والبرنيطة} ووسط المصريين يعيش كمصري يرتدي الجلباب. يميل بعقله إلى الغرب وبقلبه ينتمي إلى الشرق لكنه لم يحسم هذه القضية حتى النهاية.

لأنور عكاشة أيضاً شخصية حسن أرابيسك بطل مسلسل {أربيسك}، وهو صنايعي شهم و{جدع} يملك ورشة خشب، موهوب ومبدع في فن الأرابيسك، يستعين به الدكتور برهان (كرم مطاوع) لترميم فيلته لتحمل سمات البيئة المصرية وملامحها، إلا أن محاولات الترميم لا تجدي، وكلما قام بخطوة برزت له خطوات أخرى تؤكد ضرورة الهدم الكامل والبناء على أسس جديدة، فيقرر هدمها متسائلا: {... هل نحن أمة فرعونية أم عربية أم إسلامية أم أفريقية؟} لتظل تساؤلات {أرابيسك} من دون إجابة محددة.