«مجهولات» باتريك موديانو، رواية تتناول ثلاث حكايات لنساء يعانين الإهمالَ وصقيع الوحدة والضياع في غربة واسعة داخل النفس وخارجها، يمضين حياتهن في «توهان» وافتقاد لكل معنى الألفة والائتلاف العاطفي الإنساني، نساء متوحدات، متوحشات يعشن في انغلاق نفسي بعيد عن أي تواصل، ويصعب اختراقهن وملامستهن والوصول إلى قرارهن، لا يعرفن معنى لوجودهن ولا معنى للوجود برمته، وليس لديهن أي تفسير أو تساؤل لمعنى الحياة وكيف يقتنصن العيش فيها، لا يعرفن ماذا يردن، وما هي غاياتهن منها.

Ad

نساء بلا رونق، بلا فرح، بلا تعابير تعكس مشاعرهن، كأنهن أشباح، يمضين في حياة غامضة كامدة، بلا أية أهداف تحدد معالم طريقهن.

تقرأ حكاياتهن التي تُشعر القلب بالعطب، وأن هناك شيئا ما غير عادي في حياتهن، لكن واقع السرد لا يعكس حجم مصيبة ما أو كارثة حلت عليهن وغيرت من واقعهن، وجعلت منهن مسخاً يمشي في واقع سوداوي خالٍ من الأفق، السرد لم يكشف عن وقائع أدت إلى خلق هذا العدم السائر في أرواحهن، بل رسم أقداراً حياتية فيها من فرص النعم ما يتمناه الكثير ممن يحلمون بحياة تقل كثيرا عن مستوى حياتهن، ومع ذلك لم يصل بهم الحال إلى هذه العدمية والشعور بالضياع التام وانعدام هدف الوجود كله!

خاصة أن كلاً منهن حصلت على قدر وافر من التعليم، وملكت كامل حريتها من عمر صغير، وأهمها حرية القرار واختيار المصير، وسهولة التنقل بين المدن، وأية مدن هذي؟! باريس ولندن وسويسرا وإسبانيا، حيث العيش بها حلم للأغلبية من البشر.

ثلاث فتيات تشابهت وقائع حياتهن وسير مصائرهن، وإن لم توجد أية معرفة بينهن، فكل منهن فقدت والدها في ظرف ما، وتركتهن أمهاتهن في مدارس داخلية أو ملاجئ، عانين الهجرَ وفقدان الاهتمام والرعاية ودفء العاطفة، وعدا عن هذا فكلهن حصلن على قدر من التعليم، ومكان للعيش والسكن، ولم يعانين الجوع بمعناه الواسع، لكنهن لم يمتلكن أيضاً الرفاهية أو الشعور بالراحة والاطمئنان، ولم يكملن تعليمهن العالي، واتخذن قرارهن بترك دراستهن والبحث عن عمل بمحض إرادتهن، لكنهن في الواقع كنَّ بلا أية أحلام أو أهداف أو حب أو أي شكل كان من العواطف، مجردات من كل المشاعر، حياتهن تمضي ماسخة بلا معالم ولا ألوان بهجة ولا رنات فرح، حياة تدب بخطوات كئيبة تنحدر بسرعة إلى العدم.

إذن ما أسباب هذا الشعور بالعدم طالما أنه ليست هناك مبررات رهيبة تقود وتدفع إليه، خاصة مع هذا التواجد في محيط أجمل الدول الأوروبية التي تحترم الإنسان وتقدر إنسانيته وتعمل على خدمة رفاهيته وحفظ حقوقه، هذا إلى جانب جمال الطبيعة وحضارة التاريخ وعظمة هذه المدن التي تمثل الحلم السياحي لكل مواطني العالم؟

باريس ولندن وسويسرا وإسبانيا في هذه الرواية لم تكن إلا مدناً قبيحة كئيبة حزينة باردة وبائسة، فما الذي جعلها على هذه الصورة، كل ناسها غرباء باردون وحيدون بلا أية عاطفة، يمضون حياتهم في ضياع تام؟

ما اكتشفته من هذه الرواية هو مدى تأثير إحساس الكاتب وانعكاس خبرته وتجارب حياته السعيدة أو التعيسة على كتابته، فمثلا لو عاش حياة مليئة بالمسرات أو على الأقل خبر جزءاً منها، فإنها تنعكس على فهمه وتكوين رؤيته وانطباعاته وتكون كتابته عنها إيجابية، والعكس من ذلك لو كانت ظروف نشأته وحياته مريرة وتعيسة فإنها تنعكس على كتاباته وتسمها برؤية المؤلف كما يحسها ويراها، حتى وإن لم تكن في الواقع كما رآها وصورها في مؤلفه، لذا جاءت نساء باتريك موديانو على هوى رؤيته للعالم، وإحساسه المطفأ البارد الحزين الفاقد للأمن والعاطفة، نتيجة عيشه في الملاجئ، وانطبع ذلك في ذاكرته ليعيد بثه وتوليده في شخصية نسائه الثلاث اللاتي أفرغ فيهن كل مشاعره وأحاسيسه وانطباعاته التي كوّنها عن عالمه الذي عاشه وخبره.

وهذا ما يمثل خطر الكتابة التي تنقل وتبث مشاعرها وانطباعاتها ورؤيتها للعالم من خلال الإيحاء بما هو ليس واقعياً ولا صحيحاً، فحين تنقلب وتتحول مدن عظيمة إلى صور قاتمة كئيبة تحمل رهاب أبطالها لتبثه في أحاسيس متلقيها عن طريق إيحاء فني متقن، تضيع هنا الحقيقة.