من «الإسلام السياسي» إلى «الإسلام الليبرالي»
-1-ما يحدث في مصر الآن، فاجعة كبرى للكثيرين، لا سيما أولئك الذين لم يقرؤوا التاريخ السياسي العربي والغربي، وخاصة أن مصر لم تشهد مثل هذا النزاع والعنف على السلطة طوال تاريخها الطويل الحافل بالحضارة، والعطاء، والبناء الإنساني.
إن انتزاع المُلك والسلطة من جماعة، أو قبيلة، أو مجموعة أفراد، خصوصاً عندما يمثلون حزباً سياسياً عريقاً ومنظماً كجماعة "الإخوان المسلمين" كارثة هائلة، دونها كل المال، ودونها كل الأنفس، بالنسبة إلى الفريقين المتنازعين، خصوصاً بالنسبة إلى "الإخوان المسلمين" الذين يجيدون أساليب العنف منذ أربعينيات القرن العشرين، عندما أنشؤوا "التنظيم السري"، الذي قام باغتيال النقراشي باشا رئيس وزراء مصر، وأحد القضاة، وحكمدار القاهرة، وغيرهم من كبار المسؤولين المصريين. وفي الخمسينيات حاولوا اغتيال عبدالناصر، وكل هذا كان محاولات منهم لانتزاع السلطة والمُلك في مصر.فالحروب الأهلية التي نشبت بين العرب قبل ظهور الإسلام كانت نزاعاً سياسياً على السلطة والمُلك، وحروب الردة- كما يقول المستشرق البريطاني مونتوغمري وات في كتابه الضخم "محمد في المدينة"- كانت خلافاً سياسياً-دينياً-مالياً، ونزاعاً على السلطة والمُلك كذلك.والحرب التي نشبت بين الإمام علي بن أبي طالب (رابع وآخر الخلفاء الراشدين) والأمويين (معاوية بن أبي سفيان)، وذهب ضحيتها آلاف المسلمين في معركة "الجمل"، كانت خلافاً سياسياً، ونزاعاً على السلطة والمُلك.وحروب الأمويين مع العباسيين والعباسيين مع الأمويين فيما بعد كانت خلافاً سياسياً، ونزاعاً على السلطة والمُلك.والحرب الطاحنة بين ابني هارون الرشيد (الأمين والمأمون) كانت خلافاً سياسياً، ونزاعاً على السلطة والمُلك.وقتل إخوة وأبناء السلاطين العثمانيين، كان، حتى لا يثور هؤلاء على السلاطين، وينتزعوا منهم السلطة والمُلك.ولننظر الآن ماذا يحصل في سورية، وقبلها في ليبيا، واليمن، وغيرها من مجازر يومية.ومئات الآلاف من البشر قُتلوا في الثورة الإنكليزية عام 1688، والثورة الأميركية عام 1776، والثورة الفرنسية 1789، والثورة الصينية عام 1911، والثورة البلشفية عام 1917.--2لا بُدَّ من عزاء حار لمصر الكبرى في هذا المصاب الأليم، وهذا الثمن الفادح الذي دفعته وتدفعه مصر للحرية والديمقراطية، قبل أن نكمل ما انقطع في الأسبوع الماضي، من بقية الأسباب والخطوات التي من شأنها تمكين الليبرالية من الانتشار أكثر في العالم العربي، والنفاذ فعلاً في العالم العربي، وتحقيق حلمها الكبير الذي نادت به في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بزعامة طائفة من المفكرين "الشوام" الذين هربوا من بلاد الشام إلى مصر، هرباً من الطغيان والاستعمار العثماني، وعلى رأسهم شبلي شميل، وفرح أنطون وعبدالرحمن الكواكبي، وغيرهم، مع كوكبة من المفكرين المصريين أمثال إسماعيل أدهم، وإسماعيل مظهر، وعبدالعزيز فهمي، وأحمد لطفي السيد، وطه حسين، وعلي عبدالرازق، ومصطفى عبدالرازق، وخالد محمد خالد، وأمين الخولي، وغيرهم، وقبل تأسيس جماعة "الإخوان المسلمين" عام 1928 في الإسماعيلية، وبعد أن جربت مصر (الدولة العربية الكبرى، والشعب العربي العريض العظيم)، حُكم جماعات "الإسلام السياسي" 2012/2013 المتمثل بجماعة "الإخوان المسلمين"، وبعد أن أصبح الرأي العام العربي والإسلامي مستعداً لسماع الليبراليين العرب الآن، كما لم يكن في أي وقت مضى، بعد أن جرَّب حُكم من ركبوا موجة "الإسلام السياسي"، ورأى الشارع العربي والإسلامي- "بأم عينه"- الاختلاف الفظيع والشنيع بين الشعارات الدينية والتطبيق على أرض الواقع. فعلى الليبرالية العربية أن تغير فوراً من طروحاتها وتتبنى الخطوات التي ذكرناها في المقال السابق، إذا أرادت أن تنفذ فعلاً في العالم العربي، وتفوز بما تحلم أن تحققه، فالبحث في الإسلام عن طروحات ليبرالية ضرورة، لكي تتبناها الليبرالية العربية، كما سبق أن فعل الزعيم الحبيب بورقيبة. فإن عجزت هذه الليبرالية عن ذلك فلتتخل عن المبدأ الليبرالي، حيث لا منفذ لليبرالية العربية غير باب الإسلام في العالم العربي المتدين. فإذا كان باب "الإسلام الليبرالي" مغلقاً، ولا منفذ منه، فلا ليبرالية حقيقية وواقعية ستحقق في يوم ما، في العالم العربي.فما باب الإسلام الليبرالي؟وهل هناك باب في الإسلام لليبرالية العربية؟كثيرون من المتطرفين والمتشددين ينكرون ذلك.-3-إن الليبرالية، مناخ وآلية لعرض الأفكار والمعتقدات، وليست فكراً أو معتقداً بحد ذاته، وفي هذا السياق، فكثيرون من المفكرين يعتبرون أنفسهم مسلمين أولاً، ثم ليبراليين.فالعرب مسلمو المبادئ، وعليهم أن يكونوا ليبراليي الآليات، والإسلام نفسه لن يكون له نجاح إلا إذا استخدم الآليات التي توصَّل البشر إليها في العصر الحديث؛ لتطبيق العدل، وهي آليات ثبت نجاحها.ولنأخذ مثالاً، "ليبرالية" المستشرق النمساوي المسلم محمد أسد، ففي كتابه "منهاج الإسلام في الحكم"، يؤكد محمد أسد إمكانية تحويل مبادئ الإسلام العظيمة، إلى واقع حي معاش مزدهر، يهتم بالإنسان، ويعترف بحقوقه، وينمّي إمكاناته، ويقيم العدل، ويؤسس العلاقات الاجتماعية والسياسية على القانون وعلى المؤسسات، وليس على الارتجال الفردي، فيمنع الاستبداد، ويحفظ الحقوق، ويكفل الحريات، ويلتزم بالمساواة، ويحترم المال العام، وينشر السلام.ووجد أسد أن آليات هذه الليبرالية غربية المنشأ، منها: توزيع السلطات، وتأكيد دولة القانون، وتقنين الأحكام الشرعية، لئلا تبقى مرتهنة بالأمزجة الشخصية. كما أكد ضرورة توفير الشفافية، وضمان حرية الرأي، والالتزام بمبدأ الانتخاب، لشاغلي السلطتين التشريعية والتنفيذية.فمحمد أسد بهذا يؤمن بالإسلام شريعة وعقيدة، وبالليبرالية وسائل وآليات.وتلك كانت هي الليبرالية الإسلامية التي انتهى إليها مفكر ليبرالي سعودي كإبراهيم البليهي، في مطلع القرن الحادي والعشرين، والتي آمن بها ودعا إليها كوكبة من المفكرين العرب الإسلاميين كالشيوخ: أمين الخولي، وأحمد صبحي منصور، وخالد محمد خالد، والمفكر السعودي المعاصر يوسف أبا الخيل، وغيرهم.* كاتب أردني