من الذاكرة: «الغولة»
كنّا نتجه أخي الأكبر وأنا، مع أول زقزقة للعصافير، نحو "مقثاتنا" التي تبعد عن القرية حوالي أربعة كيلومترات والتي تختبئ وراء تلة، لاتزال آثار قرية دارسة، يسميها أهل قريتنا "الرُّجم"، وعندما أقبلنا على "المقثاة" من فوق مرتفع من الجهة الشرقية شاهدنا شيئاً لم تتضح معالمه تماماً، نظراً لبعد المسافة أولاً، ولأن الشمس لم تكن قد أشرقت بعد، لكن هذا "الشيء" كان يبدو شديد السواد، وكنا نخاله يزحف بين أتلام البطيخ والفقوس لكنه كان بطيء الحركة، وكان يبدو في بعض الأحيان كأنه لا يتحرك إطلاقاً وإنما يتقلب على جنبيه كما يتقلب النائم على فراش غير مريح.سيطر علينا الخوف وساورتنا الوساوس خصوصا أننا كنا نسمع دائماً أن "مُغُرْ سليم"، وهي سلسلة من الكهوف القديمة التي تقع في وادٍ يبدأ بقمة جبل يواجه جبال عجلون من الجهة الجنوبية-الشرقية وينتهي بسيل الزرقاء، تسكنها أشباح وحيوانات أسطورية. وكان أحدهم قد أقسم في إحدى سهرات القرية الشتائية أنه شاهد بأم عينيه "غولة" ضخمة تخرج من هذه الكهوف، وقال آخر إنه شاهد "سعداناً" في المنطقة ذاتها أكثر من مرة.
قلت لأخي إنها "الغولة"، فهي السوداء التي تشبه عجوزاً شمطاء ضخمة الجسم، وهي التي لا تقدر على المشي السريع في الأرض المفلوحة، لأن أطراف حوافرها مدببة كأطراف "الشباري"، وصمت شقيقي، واستبد بي أنا الخوف والرعب وكانت "الغولة" السوداء الملعونة تتقلب ذات اليمين وذات الشمال دون توقف، ولأننا اقتربنا من "المقثاة" أقرب وأقرب، رغم مخاوفنا الشديدة، فقد بتنا نسمع استغاثات تشبه استغاثات امرأة تختنق، وقد سمعنا أنيناً يقطع نياط القلوب وعويلاً أخذ صداه يتردد في الوديان المجاورة. ركضنا شقيقي الأكبر وأنا، ولكن ليس في اتجاه "المقثاة" مباشرة، وكان الأنين والعويل يتعاليان كلما تقدمنا بضع خطوات إلى الأمام. ولقد أصبح جسم "الغولة" السوداء يبدو أضخم حجماً، وبتنا نرى كرات البطيخ المتراصة في نمط جميل وسط ذلك السهل الرحيب الشديد الاخضرار، وكانت إحدى هذه الكرات تبدو كأنها في حضن هذه الغولة المتوحشة وبين يديها.وفجأة وبينما نحن مستلبون تماماً للذعر والخوف من تلك "الغولة" المتوحشة المخيفة التي لم يتوقف عويلها ولم ينقطع أنينها، برزت ثلة من الرجال والنساء من جهة الوادي الذي تقع فيه "مُغُرْ سليم"، وكان هؤلاء يهرولون في اتجاه "مقثاتنا" وكأنهم في مباراة سباق صباحية. ركضنا نحن بدورنا في اتجاه "المقثاة" ولكنهم كانوا أقرب فسبقونا واتجهوا نحو "الغولة" وأخذوا يدورون حولها وهم يصرخون ويولولون، ثم حملوها وولوا هاربين في الاتجاه الذي جاءوا منه، وركضوا وركضنا وبقوا يركضون ونحن نركض وراءهم وعويل "الغولة" يعلو فترد عليها بعض النسوة الراكضات بعويل أعلى... وهكذا إلى أن توقف الجميع تحت شجرة ملول كبيرة، فوصلنا نحن وكانت المفاجأة مذهلة وغير متوقعة.كان والدي، رحمه الله، كما قيل لنا، اشترى من أسواق درعا "ذرعات" في نحو عام 1936 فخاً ضخماً بفكين كبيرين وأنياب حديدية حادة طويلة ومن النوع المخصص لاصطياد الضباع وبنات آوى، ولأنه لاحظ آثار لصوص في "المقثاة" فقد نصب هذا الفخ إلى جانب بطيخة كبيرة من الممكن مشاهدتها من الطريق المجاور، يبدو أن الحظ العاثر هو الذي ساق إحدى بنات قرية مجاورة، كن قد اعتدن الانطلاق كل فجر على هذا الطريق لإحضار الماء على ظهور الحمير في قرب جلدية من نبع قريتنا، تحت إغراءات الحصول على تلك البطيخة الكبيرة إلى هذا الفخ الذي ابتلع قدمها فور دخولها دائرته القاتلة.لم يكن أي من أفراد المجموعة يعرف كيف يخلص قدم الفتاة العالقة في الفخ الذي تقبض أسنانه المتوحشة على كاحلها وتتوغل في لحمها الطري حتى العظم، فقمنا شقيقي وأنا بهذه المهمة، وخلصنا تلك الفتاة التي أصبح لقبها منذ ذلك الحين "أم الفخاخ"!!.