فجر يوم جديد: «الحرامي والعبيط»... بشر للبيع!
في فيلم «الحرامي والعبيط»، يتعمد الكاتب أحمد عبدالله كسر الإيهام من خلال توظيف بطله «الحرامي» في دور «الراوي»، الذي لا يكتفي بالتعليق عبر شريط الصوت، وإنما يظهر بوجهه ليواجه الكاميرا لتتولى مهمة التعريف بالحارة التي يسكنها... وأهلها!صحيح أن عبد الله لم يعتمد هذا النهج طويلاً، وتخلص بسرعة غير مفهومة من «الراوي»، بمجرد أن انتهى من مهمة التعريف بالشخصيات، وعاد إلى طريقة السرد التقليدية، إلا أن الفيلم، الذي أخرجه محمد مصطفى، احتفظ بجرعة التكثيف والتوتر والإثارة، التي قادت إليها معالجة درامية اتسمت بالرقي، وأداء تمثيلي غلبت عليه الطرافة، وإن لم يخل من مبالغة، فضلاً عن لغة سينمائية لم تغب عنها الرصانة.
يبدأ فيلم «الحرامي والعبيط» وينتهي بلقطة «بانورامية» للقاهرة. وبين اللقطتين، يرصد واقعها الراهن وهمومها الآنية، من خلال منظور يتأسى لما أصابها، وما آلت إليه حال أهلها، من دون اللجوء إلى «العويل الدرامي» و{اللطم التمثيلي» (إن جاز التعبير) أو الوقوع في فخ الخطاب السياسي والاجتماعي الزاعق والمباشر، بل يمكن القول، من دون مبالغة، إن «الحرامي والعبيط» يرصد بصدق حجم ما وصلنا إليه من توحش ولاإنسانية وشراسة، لا يمكن القول إنها نتاج تردي الأحوال الاقتصادية فحسب، بل تعود، في المقام الأول، إلى التدهور الكبير الذي أصاب البنية الاجتماعية، والانهيار الأخلاقي الذي ضرب أركان المجتمع المصري ككل، بدليل أن التورط في مستنقع الفساد ليس مقصوراً في الفيلم على هؤلاء الذين مزقهم الفقر وتجرعوا مرارته، فخرجوا ليثأروا منه ويقتلوه، وإنما طاول أولئك الذين تمرّغوا في نعيم الدنيا وخيرات الثراء والنفوذ والوجاهة، والزواج بالسلطة. وعلى رغم ذلك أبوا إلا أن يطلبوا المزيد، ورحبوا بالدخول في شراكة مع الفقراء والمعدمين لامتصاص آخر نقطة دم في جسد الأمة المُنهكة والمجتمع المثخن بالجراح!في لحظات كثيرة، وأنا أتابع أحداث فيلم «الحرامي والعبيط»، كنت أتساءل مصدوماً ومندهشاً عن كم القسوة التي تغلغلت في نفوس الشخصيات الدرامية ومبرراتها ومدى واقعيتها وحجم مصداقيتها، وسرعان ما استفقت إلى نفسي، وأدركت أننا تعدينا مرحلة «القتل بدم بارد»، ونعيش زمن «الضمير الميت»، الذي يمكن خلاله استحلال الكبائر وانتهاك الحُرمات والتمثيل بجثث «الأحياء»، ومن ثم فلا حاجة أبداً إلى الاندهاش حيال قيام «الحرامي» (خالد الصاوي) باستغلال حالة العجز والهوان وغياب الوعي، التي وصل إليها «العبيط» (خالد صالح) وتحويله إلى «مصنع لإنتاج قطع الغيار البشرية»، بحيث يتم تفكيكه، وبيع أجزائه القطعة تلو الأخرى لأعلى سعر. غير أن المثير أن «البيع» بعد «التفكيك» لم يكن مقصوراً، هذه المرة، على علية القوم وصفوة المجتمع، من التجار والأثرياء، بل كان للفقراء، وهنا الجديد والصادم، نصيب فيه؛ بعدما فرض «الحرامي» شروطه على «الطبيب» السمسار الذي اعتاد ارتكاب جرائم اقتناص وبيع القطع البشرية للأغنياء والمسؤولين وأصحاب النفوذ، ودخل معه في مقايضة يمنح الطبيب بمقتضاها إحدى كليتي «العبيط» نظير الاحتفاظ لنفسه بإحدى قرنيتي «العبيط»، وفي صفقة لاحقة يتفق الاثنان على «استعارة» فص من الكبد، ولكن تتعطل الصفقة لأن «الحرامي» يولي وجهه شطر من يدفع أكثر في الجسد الذي لا يملكه!قدم الفيلم عبر «الفلاش باك» إشارات خاطفة عن المأساة التي تعرض لها «العبيط» يوم كان مواطناً بسيطاً قبل أن يضبط زوجته، وهي تخونه في فراش الزوجية، وتعرضه لإهانة معنوية وجسدية، يفقد عقله على أثرها، وصنعت اللقطات، على صعيد التقنية، صورة جمالية اصطبغت بمسحة لونية أوحت بمرور الزمن، كما منحت الأحداث عمقاً درامياً. لكن السيناريو بالغ قليلاً عندما قدم صورة هزلية لشخصية «العبيط»، الذي يتم تكبيله بسلسلة حديدية، وإلقاء طعامه على الأرض كالكلب؛ فالحالة الرثة التي وصل إليها لا توحي بأنه فقد عقله تماماً، بدليل استدعائه ذكرياته مع طفلته، ومن ثم لا يمكن أن تُثنيه عن مقاومة جريمة التمثيل بجسده، كما يفعل المجذوبون في كل بقاع الأرض، إلا إذا كانت المبالغة متعمدة للتحذير من أن ظاهرة «الاتجار في الأعضاء البشرية» تضخمت وتفاقمت، فلم تعد مقصورة على من يبيع أعضائه بملء إرادته مدفوعاً بالعوز والفقر، بل ستطول كل من يعاني غياباً في الوعي أو عطباً طارئاً في العقل، وهو ما يُنذر بُقرب اختفاء «المجاذيب» من الشوارع، وربما نزلاء مستشفى الأمراض العقلية، لأنهم سيُقتادون غالباً إلى أماكن سرية للخضوع لجراحات مشبوهة تنتهي بالاستيلاء على أعضائهم البشرية، بواسطة الأغنياء وأصحاب النفوذ، وكأننا حيال «سوق نخاسة» من نوع جديد!