يؤكد كثير من علماء الاجتماع السياسي، في العالم العربي والغرب، أن داء الديمقراطية العربية، في داخلها وليس في خارجها، وأنه يتركز بالدرجة الأولى في النسيج الاجتماعي والثقافي العربي. ومن هنا، يرون أن هناك أسباباً جذرية لتآكل الديمقراطية، في العالم العربي، منها:

Ad

1- أن تجربة العرب الديمقراطية البرلمانيـة لفترة قصيرة نسبياً، أقنعتهم أن هذا النظام فاشل تماماً. ولكن التجارب البرلمانية في العالم العربي ذات العمر القصير جداً، لا تصلح للحكم على فشل أو نجاح الديمقراطية الليبرالية، فيما لو علمنا أن أوروبا قضت زمناً طويلاً مع هذه التجارب، حتى استطاعت أن تُرسي القاعدة الديمقراطية الحقَّة. وأن الحكم على هذه التجارب بالفشل، جاء من قبل الأنظمة السياسية العربية، التي لا تريد الديمقراطية، ولا تريد تجاربها في الأساس، وتضع كل العقبات في طريقها، إضافة إلى العقبات الذاتية الموجودة أساساً في الأمة العربية، كالجهل، والتخلف، والأمية، والفقر، وسيطرة المعتقدات الاجتماعية الخاطئة.

وعلينا أن نعلم "ان النظـام الديمقراطي الناجح، يتطلب وجود جمهور متعلم، وأحزاباً سياسية منظمة، وقيادة نيّرة. فلقد كان الهدف الرئيسي للنظم الدستورية التي ولدت بعد الحرب العالمية الأولى بلوغ الاستقلال، وقد تحقق ذلك. ولم تتحقق الديمقراطية، لعدم توفر الأرضية الجماهيرية اللازمة." كما قال باحث عراقي/ أميركي في جامعة واشنطن في كتابه ("الأحزاب السياسية في العالم العربي"، ص 267).

2- ضعف الطبقة الوسطى في المجتمع العربي، المعوّل عليها قيام الإصلاح في مجالات الحياة كافة، وذلك بسبب أن المجتمع العربي مازال مجتمعاً قبلياً وعشائرياً في معظم قيمه الاجتماعية، والسياسية، والأخلاقية. وساعد على عـدم التكوين الطبقي في المجتمع العربي، تقاسم كل أفراد المجتمع نفس القيم العقلية التقليدية. وإذا كان من الممكن تقويم التطور الديمقراطي في المجتمع العربي، فيمكن القول، بأنه متوقف على نجاح وجود قوة الطبقة الوسطى، ووعيها لظرفها التاريخي.

3- عدم تزامن التطور الاجتماعي مع التطور الاقتصادي، في أنحاء كثيرة من العالم العربي، مما نتج عنه مقاومة اجتماعية للتطور السياسي/ الديمقراطي. والمثال الواضح على هذا دول الخليج العربي التي تطورت اقتصادياً تطوراً ظاهرياً منذ عام 1974 نتيجة للطفرة البترولية أو "التخدير النفطي" كما يرى الباحث الاجتماعي/السياسي المصري محمود عبدالفضيل في كتابه ("التشكيلات الاجتماعية والتكوينات الطبقية في الوطن العربي"، ص 221).

ولكن حتى هذا التطور الظاهر لم يُصب الناحية الاجتماعية. وظل المجتمع يقاوم أي تطور ديمقراطي، كان آخره عُسر إقرار حق الانتخاب والترشيح للمرأة الكويتية، واعتبار إقرار هذا القانون بمنزلة "يوم أسود" في تاريـخ الكويت، كما قال نائب كويتي متشدد (جريدة "السياسة" ، الكويت، 17/ 5/ 2005) ، الذي كان ينوي تقديم اقتراح بأن تجلس النائبات من النساء مستقبلاً، في مجلس الأمة الكويتي، في الصفوف الخلفية.

4- وجود الروح الطائفية والعشائرية، المتأصلة في معظم الأحزاب السياسية، الموجودة على الساحة العربية، رغم أسماء هذه الأحزاب التي تدل على الحداثة والمعاصرة. ووجود طابع الزعامة والطاعة العمياء لها. فكما أن العشيرة بشيخها، فالحزب بزعيمه. إذا أقبل أقبل معه الحزب، وإذا أدبر أدبر معه الحزب أيضاً. والزعيم في حزبه أكثر ديكتاتورية من السلطان في قصره. فزعماء هذه الأحزاب الدينية والقومية، اليمينية واليسارية، التقدمية والرجعية، هم عبارة عن شيوخ قبائل لا يُسألون عما يفعلون. وهم زعماء مدى الحياة.

5- إن الإنسان العربي، يعيش في ظل حصار ثالوث متكلس وجامد. فهناك أولاً، أيديولوجية العائلة الهرمية، على أساس الجنس، والعمر. وهناك ثانياً، المؤسسة الدينية التي تُغرق المؤمنين في بحر التقاليد التي ترسَّخت، وجعلتهم يرضون بمصيرهم وفقرهم، على أنه قضاء وقدر. ثم هناك ثالثاً، الدولة التي يطول ذراعها، دونما حماية للمواطن بوضع قوانين أو دساتير حقيقية، كما قالت الباحثة الأردنية ثناء عبدالله، ("خصوصية طرح الديمقراطية في الواقع العربي"، ص12).

  6- إن الديمقراطية لا تُشكِّل ضمانة أكيدة لانتقال السلطة، وتوزيعها على وجه أفضل في المجتمعات الفتية، التي تعيش تحولاً اجتماعياً مستمراً، وتخضع لضغوط قوية على جميع الصُّعُد، ومن جميع الجهات. فكل نظام ديمقراطي، هو ثمرة توازن بين قوى اجتماعية، على حد قول المفكر الاجتماعي- السياسي السوري/ الفرنسي والأستاذ في جامعة السوربون، وأحد زعماء المعارضة السورية الآن، برهان غليون في كتابه (المسألة الديمقراطية والاستراتيجية الدولية، ص103).

7- لقد واكب المد الديمقراطي، الذي أخذ يجتاح العالم العربي في هذه الأيام، والدفاع عن حقوق الإنسان، الذي أصبح حديث الكثيرين في الفضاء العربي، وشعارات التعددية التي تملأ أرجاء الوطن العربي الآن، فوضى عارمة، كما شاهدنا في تونس، وليبيا، العراق، ولبنان، ومصر، والأردن، واليمن. فرغم الأحادية الحزبية، ووحدة اللغة، وأحادية الرأي، نُودي بكثرة الأحزاب، وتعدد الآراء، وكثرة اللغات. إلا أن المثير للاهتمـام أن معظم الحركات ،التي قامت لتُرسي التعددية، وتؤسس للديمقراطية، وتفتح الأبواب للتحرر، غالباً ما انتهت إلى بث الفوضى، وإقامة الرعب، ونشر البلبلة في أنحاء كثيرة من العالم العربي، نتيجة لعدم الوعي الاجتماعي، وسيطرة الدهماء على الشارع العربي، وهو ما سبق وعرضناه بالتفصيل في كتابنا (الشارع العربي: دراسة تاريخية سياسية، 2003).

8- إن بُنية المجتمع العربي كبُنية الفكر العربي؛ بُنية اتباعية وليست ابتداعية، وثابتة وليست متحولة، ومتحجرة وليست مرنة، ومقيدة وليست حرة، وأبواب الاجتهاد فيها مغلقة وليست مفتوحة. والحجاب مُنسدل على وجه المرأة وعقل الرجل. ونحن بالتالي، أمة القيود والسدود، ولسنا أمة الطيور بلا حدود. والديمقراطية هي الحرية في كل مرافق الحياة. وما نشكو من انحطاط اجتماعي، على هذا النحو الذي نتخبط فيه إلى الآن، يحول بيننا وبين الديمقراطية، وإلى أمد طويل. وهذا العامل وعوامل أخرى، غائبة عن وعي الإدارة الأميركية الحالية، التي بدأت السلّم الديمقراطي العربي من الدرجة العليا (النظم السياسية والحكام العرب) وكان العراق المثل الأكبر والأبرز، وأفغانستان المثال التالي، وربما هناك أمثلة أخرى قادمة قريباً. ولم تبدأ الإدارة الأميركية من الدرجة الأدنى للسلم الديمقراطي العربي (النظام الاجتماعي العربي).

9 - إن الديمقراطية هي ابنة المجتمعات الصناعية. ولم تتقدم الديمقراطية في الغرب إلا بعد أن انتقلت مجتمعاته من مرحلة الرعوية الزراعية وقيمها، إلى المرحلة الصناعية وقيمها. والعالم العربي ما زال إلى الآن بعيداً مسافة كبيرة عن المجتمع الصناعي وقيمه. فلا يكفي المجتمع أن يكون فيه العدد الكبير من المصانع المنتشرة هنا وهناك. ولا يكفي أن يكون مصدراً للسلع. ولكن المهم أن يتحلّى هذا المجتمع بقيم المجتمع الصناعي، وهي قيم العقلانية، والحرية، والانفكاك من الخرافات والأساطير، وتقييد حرية المرأة، واعتبارها قطعة أثاث في البيت، يمكن تجديدها من حين لآخر، وليست قيمة إنسانية تشارك في بناء المجتمع، باعتبار أن النساء "شقائق الرجال". والديمقراطية- بالتالي- هي حداثة قيم العقل، التي تثير مشاكل للوعي الاجتماعي الذي مازال، بعناصره السائدة، مغلقاً على الحداثة القيمية التي قدمت العقل على النقل.

10- وأخيراً، علينا أن نولي الانفجار السكاني- كعامل اجتماعي ضد التقدم الديمقراطي- في العالم العربي أهمية بالغة. ونربط تفادي هذا الانفجار بتحسن ظروف التنمية الاجتماعية.

و(للموضوع صلة).

* كاتب أدرني