الصورة كسلاح في المعركة
كانت الخيول المُدّرعة كفيلة بحسم أي معركة من معارك الجيل الأول للحرب، إلى أن تم اختراع المدفعية؛ فباتت تلك الخيول وبالاً على من يستخدمها. لقد حدث شيء من هذا القبيل، حين غزا نابليون بونابرت مصر في عام 1798، ليواجه بمدفعيته فرسان المماليك الشجعان في ملابسهم المزركشة، ودروعهم الثقيلة، وخيولهم الأصيلة، لقد كانت النتيجة مفجعة؛ إذ انهزم الفرسان الشجعان ببساطة، ولم يُمنحوا فرصة منازلة العدو بسيوفهم، وخرجوا من التاريخ.لم يستفد فرسان المماليك شيئاً من الخيول المطهمة، لأن مدفعية الجيش الفرنسي كانت أكثر تأثيراً، لكن الآلة العسكرية الفرنسية كلها منيت بهزيمة نكراء لاحقاً في مستهل الحرب العالمية الثانية، على يد الجيش الألماني، الذي كان يستخدم دبابات مدرعة خفيفة الحركة من نوع "بانتزر مارك الثاني"، وهي الدبابات التي مكنته من تحقيق الاختراق في صفوف العدو، والالتفاف على خط "ماغينو"، مستفيداً من دعم سلاح الجو وامتلاكه قدرة عالية على المناورة.
إنها قصة الحرب إذن. الموارد والمعدات ووسائل استخدامها تحدد اسم المنتصر إلى حد بعيد، بصرف النظر عن شجاعة المقاتلين أو الحق الأخلاقي.يبدو أن لدينا سلاحاً جديداً يزيد الاعتماد عليه باطراد في حروب اليوم... إنه سلاح الصورة. بزغ تأثير سلاح الصورة في المعارك الحربية مبكراً في منتصف القرن الماضي، حين كانت الولايات المتحدة تخوض معركة في الأراضي الفيتنامية، لنصرة جيش الجنوب في مواجهة جيش الشمال الذي كان مدعوماً من الاتحاد السوفياتي السابق والصين.يُعتقد على نطاق واسع أن مجموعة من الصور التي التقطها مصورون بارزون قاموا بتغطية المعارك كانت وراء قرار سحب القوات الأميركية وإنهاء الحرب هناك. من بين تلك الصور صورة لطفلة فيتنامية تُدعى "كيم فوك"، تم التقاطها في عام 1972، بواسطة مصور أميركي يعمل لوكالة "أسوشيتد برس"، وهي الصورة التي حصل صاحبها لاحقاً على جائزة "بوليتزر" الصحافية الرفيعة. كانت القوات الفيتنامية الجنوبية، المتحالفة مع الولايات المتحدة، قد قصفت إحدى قرى الشمال بـ"النابالم"، حيث دفع القصف الوحشي سكان القرية للخروج مذعورين والحرائق مشتعلة بأجسادهم، لتبرز صورة الطفلة "كيم" وهي عارية تماماً تصرخ من الرعب والألم، بعدما اشتعلت أجزاء من جسدها بفعل القذائف الحارقة.ظلت الصورة تلعب أدواراً مؤثرة في الحروب منذ ذلك الوقت، إلى أن وقعت حرب الخليج الثانية 1991، وهي الحرب التي سُميت بـ"حرب سي إن إن"، لأنها الحرب الأولى في التاريخ البشري التي تُنقل على الهواء مباشرةً بفضل تلك الشبكة الإخبارية، التي أحدثت بذلك ثورةً غير مسبوقة في عالم الإعلام، حيث أضحى بوسع المرء أن يشاهد الصواريخ وهي تنهمر على المدن كأنه يتابع فيلم تشويق، ويستمع إلى صفارات الإنذار كما يستمع إلى السيمفونيات الموسيقية. وفي عام 2000، عادت الصورة لتصنع "مجداً سياسياً"، حيث التقط مصور يعمل في وكالة الأنباء الفرنسية (أ ف ب)، الصورة الشهيرة للطفل الفلسطيني محمد الدرة، الذي قتلته القوات الإسرائيلية بدم بارد في مشهد لا يُنسى مع اندلاع "انتفاضة الأقصى".كان الطفل محمد الدرة يحاول الاحتماء بوالده من قصف القوات الإسرائيلية، لكن الرصاص طاله وأرداه قتيلاً، وظلت الصورة تؤرق الضمير العالمي، وتؤثر في الرأي العام الدولي، بشكل كبّد الجانب الإسرائيلي خسائر معنوية وأخلاقية فادحة وغير في مسار الصراع تغييراً فارقاً.الأمر ذاته تكرر في العدوان الإسرائيلي على لبنان في عام 2006، حيث لم ينجح التعتيم الإعلامي الذي فرضته تل أبيب في إخفاء بشاعة القصف.لكن الأمور بدأت تأخذ منحى جديداً اعتباراً من عام 2009؛ إذ يمكن اعتبار أن هذا العام شهد تحولاً جوهرياً في مسار استخدام الصورة في الحروب والنزاعات. اعتباراً من هذا العام لم تعد الصورة سلاحاً ثانوياً، يُحدث أثراً جانبياً في معنويات الجانبين المتصارعين، أو يؤثر في النظرة الأخلاقية لمواقف كل منهما. في هذا العام بات سلاح الصورة أحد أسلحة الميدان الرئيسة، ويمكن القول أيضاً إن الجيوش المنخرطة في المعارك، والأطراف المشتبكة في النزاعات، باتت تعد له، وتخطط، وتفرز الموارد، لضمان تفعيله بأكبر صورة ممكنة.حدث هذا في العدوان الإسرائيلي على غزة نهاية عام 2009، وحدث أيضاً في أعمال العنف الواسعة التي شهدتها إيران على خلفية الانتخابات الرئاسية التي أقيمت في العام نفسه، وهي الانتخابات التي شهدت تزويراً واسعاً بحسب معارضين بارزين، وواجهت معارضة شرسة، تم قمعها باستخدام السلاح في ظل أجواء تعتيم إعلامية فرضتها السلطات.يمكن القول إن الصورة في النزاع الدائر في سورية راهناً تلعب دوراً كبيراً يكافئ الدور الذي يلعبه أي سلاح من الأسلحة المادية التي يمتلكها الجيشان السوريان النظامي و"الحر". فثمة آلاف الفيديوهات التي يتداولها النشطاء عن وقائع تلك الحرب الأهلية المدمرة، والتي تؤثر تأثيراً بالغاً في تقييم الأطراف المختلفة للجانبين، وبالتالي في السياسات التي تتخذ حيال تلك الحرب. كانت الصورة حاضرة بقوة خلال الأحداث التي شهدتها مصر منذ اندلاع ثورة 25 يناير، وما تلاها من أحداث عنف واشتباكات متكررة.وما زال كثيرون يذكرون صورة الفتاة التي لُقبت بـ"ست البنات" أو "صاحبة العباءة السوداء"، التي تم سحلها وتعريتها بواسطة جنود الجيش في ما عرف بأحداث "فض اعتصام مجلس الوزراء".تصدرت صورة الفتاة المسحولة ذات النصف الأعلى العاري صحفاً رئيسة في العالم، وتم تداولها باعتبارها دليلاً على التعسف الذي تقمع به السلطات الاحتجاج، وقد كان لها أثر كبير في إضعاف حكم المجلس العسكري المصري الذي كان يحكم بوصفه سلطة انتقالية آنذاك.قبل نحو أسبوعين، كان مفتي مصر الأسبق الشيخ علي جمعة يناقش رسالة جامعية في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، حيث استهدفه طلاب من تنظيم "الإخوان" اعتراضاً على موقفه، الذي اعتبروه "مناهضاً للتنظيم ومحرضاً ضده". كان الشيخ جالساً على المنصة الرئيسة يناقش الطالب صاحب الرسالة، حين هاجمه عدد من الشبان "الإخوان" الغاضبين، الذين كانوا يصرخون في وجهه، بذريعة أنهم خرجوا عن شعورهم لأنه عالم دين "تقاعس" عن نصرة حقوق قتلى فض تجمع "رابعة العدوية" الشهير.لكن شاباً من هؤلاء كان يحمل في يده كاميرا فيديو يستخدمها المحترفون ويقترب من الشيخ ويوجه له السباب الحاد في ما يسلط عدسة الكاميرا عليه.لقد كان جمعة يخضع لهجومين مباشرين في وقت واحد؛ الهجوم الأول يمثله السباب الحاد الذي يوجهه هذا الشاب، والهجوم الثاني يتجسد في الكاميرا التي يسلطها مهاجمه عليه.أراد الشاب "الإخواني" إخراج الشيخ عن شعوره ووقاره، ومحاولة الرد على السباب والهجوم الذي يتعرض له، ثم اصطياد صوره وهو يشتم أو يضرب أو يحاول الدفاع عن نفسه، وتقطيعها وإجراء عمليات "المونتاج" اللازم عليها، ثم رفعها على "الإنترنت"، لتكون وثيقة ضد الشيخ وعنصراً من عناصر "حرب الصور" التي تشنها "الجماعة" على خصومها.استخدم تنظيم "الإخوان" سلاح الصورة استخداماً واسعاً خلال معركته مع الدولة المصرية منذ إطاحة حكم مرسي في 3 يوليو الفائت؛ حيث تم تسخير منصات كاملة، ومحترفين، للتصوير ورفع الصور على مواقع "الإنترنت". وتم الكشف عن مئات الصور والفيديوهات المصطنعة والمزيفة التي استخدمها التنظيم لدعم مواقفه والإضرار بمواقف خصومه، حيث ثبت على سبيل المثال استخدامه لصور تتعلق بالحرب الدائرة في سورية على أنها صور التقطت في مصر.أصبح سلاح الصورة أحد أسلحة المعارك والنزاعات الرئيسة، بعدما ثبت أنه يحقق نتائج مبهرة، ربما تفوق ما تحققه نيران المدفعية وقصف الطائرات في أحيان كثيرة. لكن الإفراط في استخدامه قلل من أهمية الأثر الذي يحدثه، بعدما أُصيب الجمهور بقدر من التبلد نتيجة لكثرة مشاهدته الصور المفجعة.وبسبب الميل المطرد إلى التلفيق والاصطناع والتزوير في الصور المستخدمة على هامش المعارك والصراعات، باتت كل صورة محل شك، مما أفقدها قدراً من أهميتها، وبسبب معرفة الجمهور بأن الكثير من الوقائع تدبر فقط لالتقاط الصور، لم يعد للصورة التأثير نفسه.يمكن القول إن بعض المواجهات تصطنع خصيصاً من أجل الصورة، وأن دماء تراق وأرواحاً تزهق فقط من أجل التقاط الصورة، وأن بعض المنخرطين في الصراع باتوا يفضلون تصوير زملائهم وهم يموتون عن التدخل لإنقاذهم من الموت، وهي مسألة تعكس اهتماماً كبيراً بسلاح الصورة، لكنها تجرده أيضاً من جزء من فاعليته.* كاتب مصري