فاطمة آل تيسان في «وردة بلون السماء» شهادات ذهبيّة في محكمة التاريخ

نشر في 15-04-2013 | 00:01
آخر تحديث 15-04-2013 | 00:01
No Image Caption
في جديدها {وردة بلون السماء} تحاول فاطمة آل تيسان تسجيل هدف في مرمى القصّة القصيرة، التي تقول نفسها بسطرين إن استطاعت، ولا تتعدّى العشرة أسطر مهما أغراها السّرد.
إذا كانت الرواية تتّسع لاحتواء الزمان والمكان وتفاصيل حياة من يسعى تحت تأثيرهما، فإنّ القصّة البالغة القصر تلتقط ومضة إنسانيّة وتوردها بتكثيف يجعلها صالحة لأن تكون مفتاحًا صغيرًا يفتح الباب الذهبي الذي تقف وراءه الشخصيّة عارية إلاّ من ذاتها.

تبدو فاطمة آل تيسان في {وردة بلون السماء} هاوية التسلّل إلى أعماق النّفس البشريّة لاصطياد الصّدمة التي تكون إطارًا للشخصيّة وعنوانًا يختصرها. وهي في نصّها الأوّل {صمت} كأنّها تفصح عن غايتها: {تمسك القلم، وعند البداية تتعثّر الحروف، ثمّة شيء يخنق الكلمات!!! أهو خوف الإفصاح عن عوالم مدفونة؟؟؟ أم عدم القدرة على اجتياز حاجز الصمت!!} إنّ تلك العوالم المدفونة لا شكّ في أنّها تتطلّب الشجاعة لإخراجها إلى عالم الضوء، فنصوص المجموعة كلّها تظهر صاحبتها ثائرة على المستوى الاجتماعي ومحتجّة على بشاعات إنسانيّة يناضل الناس لاقترافها، ورافضة ما يقدّمه الواقع باعتباره لا يجسّد نقاوة الإنسان.

أكذوبة الفصول

في نصّ {كهولة} تفتح فاطمة كتاب المرأة الشرقيّة، التي تكبر في عيني الرجل قبل أن تمتلئ عمرًا فيصغر عقله تحت تأثير جسدها: {كبرت في عينيه وهي لا تزال أنثى ترتع في مهد الطفولة!!! صغر عقله فتخيّلها أنثاه، ليعيش معها أكذوبة الفصول الأربعة}... ويمضي الزمن أكذوبة تخبّئ في سرّها رجلاً خرج من الخيمة ولم يستطع إخراجها منه، وامرأة تجلدها لعنة الرّمل بتهمة الأنثى التي فيها... وفي نصّ {حلم} يحضر موضوع الإنجاب في ظلّ من ظلال المأساة الشرقيّة الطويلة؛ {ما بالها أحشاؤها تلفظ الأجنّة؟! أهي امرأة عاقر ولن تنجب؟ /... وفي كلّ مرّة تنسج هي عنوانًا تحسبه الأخير، مبروك إنّها حامل!}. صحيح أنّ المرأة تتوق إلى طفل لتبلغ مرتبة الأمومة العظيمة، غير أنّها في مجتمعنا الشرقي ترغب في إخراج أولادها منها لتثبت أنّها امرأة تستحقّ الحياة ووفاء رجل لها. ليس من السهل أن يقتنع بأنّ المرأة وجود كامل سواء إن بقي أولادها فيها أو خرجوا من دفء أحشائها إلى الحياة.

أمّا في نصّ {خداع} فتظهر المرأة الضحيّة التي ليس لها أن تترقّى بكفاءتها إنّما بأشياء أخر يمنع حياء السرد الكاتبة من ذكرها: {جمعهما الزمن ومكان العمل، أنثى وصديقتها! /... الصديقة كبرت فجأة، تجاوزت المساحة الضيّقة لتمدّ قدميها في باحة واسعة في ناحيتها مكتب فخم وكرسي وثير}... وفي الانتقال من قصّة إلى أخرى يتّضح أنّ فاطمة آل تيسان تكاد تكتفي بنقل الواقع وتخشى أن تسيء فنّيّة النصّ إلى هذا الواقع، لأنّ المطلوب هو الإشارة إلى الخطأ بوضوح بهدف تكوين ملفّ موثوق يضاف إلى الملفّات الشرقيّة الكثيرة. ولافت أنّ المرأة هي التي تؤلم الكاتبة بدرجة أولى ليتحوّل قلمها قلمًا شهرزاديّ المزاج، لكن عن سابق تصوّر وتصميم.

قبلة بوح

يبقى ضمير الغائب للمفرد المؤنّث قِبلة بوح فاطمة: {بكت فرحًا لحظة أن تجاوزت الأقبية المظلمة، وتعاظم نحيبها عندما وقفت تعانق النّور وحدها}، غير أنّه هذه المرّة يعلن فجيعة غير منتظرة، فهل المقصود أنّ المرأة عندنا تمضي من أسر الظلمة إلى أسر النّور؟! وهل وقوفها في النور وحدها يعني أنّ الرّجل يخشاها حرّة ويتجنّبها إن لم تكن ترتدي فستان الرّمل الطويل؟! وهل النّور يكفي ليكون تعويضًا عن الرّجل؟! وهل هو رجل واحد لكلّ النساء؟! وفي هذا السياق التساؤلي يصل القارئ إلى نصّ {سيّدة} ويطمئنّ لصحّة تساؤلاته: {حلمها رجل، على أن تبقى دائمًا في مملكته سيّدة}. هكذا، وبجملة سرديّة واحدة تقول فاطمة كلّ شيء. تقول: إنّ المرأة التي فيها، والتي يجب أن تكون فيهنّ بلا استثناء، لا تريد أكثر من أن تكون، وكينونتها هي أن تشعر بفرح السيادة والحريّة اللتين لا يجترحهما سوى رجل كامل الرجولة، يعترف لنفسه بأنّ امرأة واحدة كافية لأن تعطيه كلّ الفرح، وعليه، فإنه يعطيها كلّ الوفاء وكلّ الحبّ.

وحين تكون مصيبة المرأة كبيرة، فلا بدّ من اصطياد الرّجل بشبكة السّرد: {يغلّف أسهمه بسمّ الوفاء، وعند نصبها لاصطياد فرائسه يبلّلها بشيء من ريقه، فتخترق الأجساد بنعومة لا تقطعها إلاّ خشونة الموت}. هذه الأسهم المسمومة تشغل بال لغة فاطمة، وتقودها إلى الإصرار على أنّ الرّجل الشرقي صيّاد نساء، له كلّ يوم فريسة. فهو يعانق امرأة حيث الخنجر في يمناه لينساه في ظهرها. إنّه يبحث عن رجولته من خلال تعدّد نسائه، وينشد شهرياريّته في أرض يتّسع فيها كلّ يوم لجريمة. ويأتي نصّ {صراع الديكة} ليكمل بعضًا من مشهد الرّجل الشرقي: {... صراع الديوك الذكور على الدجاجة الأنثى، تتبارز بضربات متقنة في الرأس، ومنطقة العينين، وعندما يتعاظم النزف ويفقد أحدهما القدرة على الرؤية أمامه تنتهي حفلة الرقص الدامي لتبدأ مراسم دخول السبيّة إلى القفص}. لا تستطيع فاطمة أن ترى المرأة خارج إطار المطاردة الذكوريّة التي تريدها فريسة أو سبيّة. بينما هي تضجّ بالحنين إلى رجل يحترم كرامة الإنسان فيها، ويمضي بها وإليها إلى مسافات تجتاز جسدها وإلى كواكب تؤمن آلهتها بالحبّ الذي يحتاج إلى اثنين وليس بينهما الصيّاد والفريسة والسابي والسبيّة.

متفرّغة للحزن

في نصّ {تلك الصخرة} تقول فاطمة، أيضًا، شيئًا من المرأة المتفرّغة للحزن إلى حدّ أن تكون صخرته: {عندها دفن أبي، وفوقها أريق دم أخي، وتحتها قبرت ذكريات نهايتي، وبقي وجه أمّي وكفّا أختي، الوجه أخذ شكل الصخرة، والكفّين جسدًا يحملها}. وتطلع من هذا الكلام رائحة الدم حين يغيب الرجل القريب، الرجل الوحيد، الرجل الذي يستوطن {إهداء} المجموعة: {إليك في عوالم الفقد ومدن الفجيعة، أهدي وميض حلمي... يا أبي}. ومن هذا الكلام نفسه يطلع الحزن راسمًا صورة المرأة الشرقية {الموظفة} في البكاء، والعاجزة عن الفعل إلاّ بعينيها قائلتين حكايتها بماء مُرّ لا ثمن له يُذكر في سوق الشرق التي لا تعرض في واجهاتها إلاّ وجوه الرجال الذين نادرًا ما يبكون.

في {وردة بلون السماء} تبنّت فاطمة آل تيسان ألم المرأة الشرقيّة، وفتحت باب محكمة التاريخ حيث القاضي هو الزمن، والزمن ليس رجلاً شرقيًّا، طمعًا بإعلان حقيقة تكتسب صدقها من معاناة الواقع، لعلّ هذه الحقيقة تحرّض المرأة على أن تتجنّب خيار الضحيّة إن استطاعت، وتوقظ في الرّجل بعضًا من حقيقة الرجولة التي تنقص عند كلّ إساءة إلى المرأة... ونصوص المجموعة على قصرها كافية لإيصال الرسالة وإن تكن عاجزة عن البوح بكلّ الألم الساكن قلم فاطمة آل تيسان.

back to top