مدهشة وموحية الأماكن التي وُلدت فيها قصائد الشعراء،

Ad

تلك التي شهدت مخاض الغيم، وشهقة البرق، وتخلّي العطر عن ثيابه ليبقى عاريا كما ولدته أمّه.

هذه الأماكن أيّا كانت، غرفة مغلقة، مقهى على الرصيف، حديقة عامة، ساحل بحر، قاعة محاضرات، قطارا، طائرة، أو أي وسيلة نقل أخرى، أو أي مكان آخر.

هذه الأماكن الشاهدة على ولادة خلاقة لكائنةٍ فسفورية قد يكون لها القدرة على أن تشق البحر بأنفاسها إلى نصفين في لحظة ما، تساهم لا شك في تلك الولادة كأن تؤثر مثلاً في تشكيل ملامح المولودة ولو قليلا، صحتها البدنية والنفسية، لون عينيها، طولها، صرختها الأولى، فصيلة دمها، لون شعرها ونعومته وطوله، مدى جمالها وفتنتها... إلخ، هذه الأماكن ليست شاهدا محايدا كالرماد، ولا تمارس الفرجة بصمت الموتى، إنها شريك حقيقي في خلق تلك المولودة/ القصيدة، فهي الرحم الثاني لتلك المولودة بعد أن تخرج من ذات الشاعر رحمها الأوّل.

فالقصيدة التي تولد في ركن قصي من غابة مثلا تصاب عيناها بعدوى اللون الأخضر، وتلك التي تولد بالقرب من البحر تمتد الزرقة لحبالها الصوتية، والتي تولد في الصحراء لا تقطع حبلها السري مع السماء، أما القصيدة التي تولد في مقهى فتجيد صناعة الآهة في "ركوة" قلب!

لا بد أن تترك هذه الأماكن شيئاً من رائحتها في القصيدة، وشيئاً من أنفاسها، وأن تخبئ بين الكلمات قطعا من ثيابها الداخلية، وبعضاً من زينتها، البحر يترك شيئا من ملحه وأصدافه وسمرة بحّارته، الحديقة تترك شيئا من أجنحة فراشاتها وزقزقة عصافيرها، الصحراء تترك بعضاً من صلاة الاستسقاء في القصيدة، الغرف المغلقة تترك شيئا من دفئها وأسرار جدرانها، الشوارع تترك شيئا من وحدتها المكتضة بالخُطى، وخرائط الضياع!

كثيرا ما اعتقدت أن هذه الأماكن تعي ما تفعل في القصائد التي تولد في رحمها، وتدرك حقها في المشاركة حتى باختيار اسم المولودة، وتدرك ان حقها هذا ليس مِنّة من قبل الشاعر، بل اصطفاء وتكريم لها من جلالة الشعر، حالها في ذلك كحال الشاعر، ولأنها تعلم ذلك جيدا، فهي تمارس حقها بلا حياء أو استجداء!

وليس المكان وحده الذي يؤثر في القصيدة، فالقصيدة أيضا لها تأثير في المكان، للحد الذي تدخلت فيه القصيدة باختيار اسم المكان كجارة الوادي في لبنان مثلاً، كما أن هناك أماكن كانت ستصبح نسياً منسيّا لولا تدخّل الشعر وعنايته الذي خلّدها عبر الزمن، وليس "سقط اللوى" و"حومل" و"متردم" و"ثهمد" سوى غيض من فيض أمثلة على ذلك، وأظن أن الأماكن تتباهى في ما بينها بعدد القصائد التي ولدت في حضنها، وتعلّق على جيدها عقدا يحمل حبات بعدد تلك القصائد، وأجمل الأماكن ذلك الذي يحمل جيده العقد ذا الحبات الأكثر!

القصيدة أيضا تترك في المكان شيئا من صرختها الأولى حين الولادة، وشيئاً من رائحة رحمها الأول الذي أتت منه، وشيئا من دهشة نظرتها للعالم أول وهلة، وبعض خوفها، ورعشة كفيها من البرد.

القصائد تترك شيئا من بركتها في ذاكرة المكان حين تختصه عن سائر الأماكن ليصبح مسقط رأسها.