«أبحث عن مرآتي لأرى فيها الأماكن البكر والطرقات الترابية، البيوت الطينية، والمدارس التي تتكئ على شفة البحر، ملاعب الطفولة ودهشة اكتشافات الحياة الساحلية المبهرة، التي توارت مثل شمس المغيب حين يبتلعها الماء فيمنحنا إشارة الوداع التي نجمع بعدها ثيابنا ونعود للبيت قبل الظلام الدامس».

Ad

هذا مقتطف من قصة «السير حثيثا إلى أمس»، وهي من مجموعة «يسقط المطر، تموت الأميرة» التي يأسرها الحنين إلى زمان ومكان مدينة الفحيحيل البحرية الذي اختفى وغابت ذاكرته تحت وطء عولمة حداثة التهمت سيرة ذاكرتها ولم تُبق لها أي أثر من ماضيها، إلا في ذاكرة من عاشها قبل مرحلة طوفان تحديث خارطتها وهجوم  المباني الأسمنتية عليها.

الحنين إلى ذاك الغياب الجارف المبتلع والمقتلع لحياة كاملة كانت نابضة بسيرة مكان وزمان وحياة بشر مُحيت واقتلعت، ولم يبق لها أي بقاء خارج عن ذاكرة «نستالجي» تحاول استرجاع وهج أعمار انقضت وطُويت صفحتها فيه، وهو الذي وجد له مكانا في ذاكرة منى الشمري ليولد مجموعتها القصصية الأولى، التي حملت تفاصيل زمان ومكان وأناس عاشوا في مدينة ساحلية جميلة تفردت بطابع خاص بها، ربما تكون منى أول من كتب عن حياتها السابقة وعن تحديثها وتغيير طابعها الذي كان، فاغلب الكتابات تناولت العاصمة الكويت، والقليل كُتب عن السالمية، لكن هذه هي المرة الأولى اقرأ فيها كتابة عن الفحيحيل التي أجادت منى رسم معالمها، وأنطقت ذاكرتها وأطلقت أصواتها وروائحها التي حملت خصوصية مدينة الفحيحيل قبل أن تُطمس معالمها وتُمحى خصوصيتها.

هذه القصص لم تكتبها منى في هذا العام، فهي في رأيي قد كُتبت وانطبعت من أثر تخمرها في ذاكرة منى، عبر زمن طويل مرت فيه بكمون صقلها ونحت عنها كل شوائبها، ومن ثمة أملاها على كاتبتها.

هذه النوعية من الكتابات التي خمرها الزمن تأتي بأصدق الكتابات وأفضلها وحتى أسهلها، فهي في كمونها تكون قد استوت ونضجت بعيدا عن وعي صاحبها، وحين تندفع أو تنفجر إلى الخارج تكون هي من يكتب حالها، وما على كاتبها إلا ملاحقة سرعة انهمارها، وهناك كثيرون قد مروا بهذه الحالة، وهو ما حصل لي في روايتي الأولى «الشمس مذبوحة والليل محبوس».

ومنى الشمري منحتنا تفاصيل مدينة قد لا يعرفها البعض معرفة كاملة أو كافية، ربما بسبب بعدها وغياب زمنها واندثاره عما هو موجود الآن، لذا جاءت قصص منى بحياة لا يعرفها إلا القليل ممن عاشوا فيها.

منى استطاعت تصوير وتحديد معالم هذه المدينة، ونحت حياة أبطالها وأعادت لهم حياتهم بنبضها، فدبت الحياة في من غابوا مثل أم غانم وابنتها المريضة، وابن الجيران الأخرس، وبيت المهندس الإيراني، ويوسف عاشق جولي ابنة رئيس مهندس البترول في مدينة الأحمدي الانكليزية، وأم جاسم وزوجها المزواج، وجبرائيل رسام الإعلانات التركي، وطيبة الجميلة الشريرة، ومهدي بائع السجائر ومغتصب الأطفال، وسعاد صاحبة الصالون، وجبل واره، وحكاية بيت العنكبوت وغيرها، حكايات ناس كتبتها منى الشمري في 13 قصة استطاعت وتمكنت بالفعل من الإتيان بهم ومن ضخهم في واقع معاش نابض في صدق صور الواقع الاجتماعي لخليط من البشر استطاعوا التعايش في شروط حياة محبة عجنتهم في بوتقة مدينة ذات خصوصية مختلفة عن بقية مدن الكويت، من طبيعة من يسكنها إلى أسواقها الشعبية وبيوتها الطينية، وأحيائها وبحرها واختلاط الناس بعضهم مع بعض رغم اختلاف منابتهم وتقاليدهم، وبالرغم من ذلك، استطاعت بل تمكنت من نقل حكاياتهم بكل تفاصيلها الدقيقة، وسرقت ملامحهم ونحتت وجودهم الحي على خارطة مكان لم يعد لهم أي وجود فيه، وأنطقت صمت زمنهم رغم من محوه لينتفض حيا بعد غيابهم، وهدم بيوتهم، وانتفاء ذاكرتهم التي أبقتها محفوظة لهم في قصص ستبقيهم رغم الفناء.

مجموعة قصصية جميلة وخالية من هنات وأخطاء العمل الأول، لا يعيبها إلا التكلف في تراكيب اللغة ومبالغتها في اصطناع الشعرية التي لا تنتمي إلى روح ومفهوم اللغة الشعرية التي تُكتب فيها القصص أو الرواية.