قاسم زهير السنجري في «حطب باسق»... مجاز وفيّ لواقع الفجيعة
يتحوّل قسم كبير من الشعر العربي اليوم رثاءً جماعيّاً لضحايا النار المتنقّلة في ديار العرب على رجاء الحريّة وتحاول القوافي قراءة الضباب الموجوع الطالع من أودية الأحزان لعلّها تقبض بشبكة الحدس على رؤيا تقول: إنّ بعد هذا الموت الكثير حياة كثيرة. ينطلق قاسم زهير السنجري في «حطب باسق» برحلة تقول وجعها.
من صفحات الإهداء الثلاثي في «حطب باسق» يحدّد الشاعر قاسم زهير السنجري اتجاهات الريح التي تسوق لغته في رحلة تقول وجعها بين سماء سوداء وبحر أسود وبينهما شراع مضاء بالدمع وبالأنين حين القلوب تلفظ أحلامها وحين الأجساد ليست سوى سجون لأرواح يسكنها الذبول. في الإهداء الأوّل «لهؤلاء» يتذكّر السنجري حرباً لم تكن أقلّ من جحيم ويتضامن مع الجنديّ الذي فُرضت عليه حرب لتصير أرضه بلا بندقيّة تسرّح شعرها الطويل وتدلّ على عطشها ماء الطمأنينة: «لذكرى جحيم أنضج جلودنا، لخوذة جنديّ هو الخاسر الوحيد في حرب أعدّت لقتله!». أمّا في الإهداء الثالث «لي» فالشاعر ينشد دبّوساً من رحم لغة تحترف الإيقاظ والبعث، دبّوساً يخترق الخرس ويصل إلى الصوت ليعيد تشكيله أملاً بتجديد انتساب الروح إلى الحياة: «أبحث عن لغة بحروف من دبابيس تواجه الخرس الذي يقتل روحي».يستهلّ السنجري بوحه وعلى يديه وطن مسجّى: «وطن شاحب يطلّ على قلق فائض / أبناؤه فُطموا على عجل فتبنّتهم الحرب /... تشتهي أسماءهم اللافتات السّود / وأجسادهم لهذا التراب»... ويقرأ في وجه الوقت نشيد القلق، لأنّ اللافتات السّود تعلن وأد الحلم في رمل الفجيعة، فالأطفال أداروا ظهورهم قسراً لصدور أمّهاتهم الممتلئة حليباً حزيناً وتبنّتهم الحرب بمقصّ أعمار أعمى وهم في بداية انتمائهم إلى الوقت وبداية وقوفهم على شرفة الحياة. وإذا كان لا بدّ من مزامير تعلو بها اللغة إلى السماء، فالسنجري يكتب «مزامير الهلاك»، لأنّ الموت يفتح جناحيه من أقصى الواقع إلى أقصى الخيال. وبما أنّ الوطن هو أبو الموت وأمّه في زمن الفجيعة فلا حلّ إلاّ بأن يتدخّل الله، ويستردّ الأوطان السادية التي تعيش على دم أبنائها: «يا أبانا... / أرحنا من وطنك، / أرحنا من موتك الشهيّ، / من تلذّذك بأرواحنا / ... قتلتنا يا أبانا بهذا الوطن / ... لفظتنا في برّية موت / عند عرشك المزخرف بأرواحنا»... بمثل هذا الكلام الضارب جذوره عميقاً في الإيمان والوطن يعلن الشاعر أنّ وطناً يقتتل شعبه باسم السماء وولاءً لها لا يبدو أنّه سينجو من دمه، ولا يبدو أنّه قابل للحياة بسلام، إذاً، إنّ السماء صاحبة الحلّ، لأنّ الديني والوطني متداخلان، والديني متعدّد والوطني كذلك، ما يعني أنّ الحروب الدائرة تصنّع موتاً بلا أفق، وصلباً بلا قيامة، وليلاً لا ترتاح في آخر سواده نجمة صبح.
وفي قصيدة «ريشة الوجد» حضور للطبيعة التي تظهر كائناً حيّاً بكلّ ما فيها وتعيش ألم الإنسان الذي انتمى إليها تراباً وشجراً، فالغصون تثمر حزناً بعدما كان لها زمان «تضيّف» تين الوصل فيه، وشجر الزيتون هجره زيت السلام وصار يسقي علقم الهجر، أمّا العصافير فاكتست بريش الوداد تحت سحابة قصيدة حزينة: «... وتألّمت حزناً عليك غصونها / وقطفت تين الوصل من أغصانها / فسقاك علقم هجرها زيتونها / أشجت عصافير الوداد قصيدة / وبكى على أبياتها مجنونها»...جدار حتّى الحب عند السنجري في حطبه الباسق يقف وراء جدار رفعته لغة رمزية، ويتنفّس من رئتَي قاموس حزين، كما في قصيدة «أكاليل الرماد»، حيث يكون الحضور غياباً والرجوع رحيلاً: «عادت فأذّن للرحيل ركابها / ومضى يبشّر بالذّهاب إيابها»، وحيث تملّ المنازل فيقف الجفاء ناطوراً على أبوابها: «أدمنت طرق بيوتهم حتّى إذا / ملّت منازلهم جفت أبوابها». ولا شك في أنّ هذه المنازل لا يسكنها سوى الأطياف بعدما ترك أهلها وجوههم موشومة على الحجارة بدمع الوداع، وبعدما استعار «الفرات» لجفنه بعضاً من دموعهم ليقول حزنه: «نامت على جفن الفرات دموعهم / واحتار عند وداعهم تسكابها»... ويلاحظ القارئ العارف طعم فمه أنّ السنجري ينوّع في أساليبه الشعريّة على كفاءة وتمكّن، ويبدو مرتاحاً في القصيدة الكلاسيكيّة على توفيق لافت، غير أنّه يلجأ في بعض الأحيان إلى الإطالة والهدر اللغويّ ويرضى بأن تعيش صورة في قصيدته على حساب صورة أخرى، وتتكرّر على امتداد نصوصه مفردات معيّنة ذات سلطة وتأثير على قلمه تجتاز الحدّ المقبول.وفي سياق الحبّ أيضاً، يتنازل السنجري عن أنثاه للأرض لتصير هي المرأة، ربّما لأنّ الوطن حين يكون معتمراً فجيعته تصير المرأة بمعناها الوجودي والجسدي بعضاً من تراب وهواء وسماء وحنين، ويمسي الحبّ في قلب رجل رثّاء أوطان ظلاًّ خجولاً، يحضر ولا يحضر، يريد ولا يريد: «على ضفّتيكِ / بقاياي يا سيّدتي / على ضفّتيكِ / بقايا شراعي / وصارية / لم أزل أطفو عليها».يستمرّ السنجري حاملاً وطنه على كتف قلمه، ساعياً إلى بصيص أمل لم يجده في ظلمة محبرته، شاعراً بأنّ أرضه متروكة لقدر يغتال أقمارها المحتملة، ولا تعرف عيناه من الألوان إلاّ الأسود، ورغم ذلك يتمسّك الشاعر بوطنه تمسّك الأهل بطفل يمنعه المرض من أن يكون أكثر من جثّة تنمو، ويرمي عليه سلام المجد: «لك المجد / ... أيّها الملطّخ بدم أبنائه / والشارب أرواحهم الدسمة / أترك سنبلتي في مهبّ العصافير / أترك قرط أيّامي على أذنها»... إنّه يمجّد وطناً مصّاص دماء، وحدها ساديّته تكرّسه وطناً. وكأن السنجري يعتب على الوطن وعلى السماء وعلى كلّ أهل كوكبنا الدوّار حول شمسه، لأنّه يعيش لوطن لم يردّه دم أبنائه وطناً بينما أوطان الدنيا يعيش أبناؤها على دمها وفي زند كل منهم سلّة تملأها عناقيد الفرح والأمان.وعلى رصيف الدنيا يقف السنجري ممتلئاً من وطن موجود وغير موجود، مغتسلاً بعرَقه تحت شمس الحنين، راثياً غصن الزيتون ومنقار الحمامة، مادّاً يده شحّاذ أوطان: «أتوسّل وجه الأرض – المتشقّق جوعاً – وطناً / ما بين الحلم توارى غصن في منقار حمامة / ما بين الحلم توسّد وطني».يعرف صاحب الحطب الباسق أنّ الدمع لا يجدي، غير أنّه، على سنّة ابن الرومي، مقتنع بأنّه يشفي، وعليه، فإنّه رثى شعباً سريع الموت، لا تسمح سرعة موته بالرّثاء، ولا وقت للقصيدة لتحضر بكامل أناقتها بين جنازة وأخرى. رثى ذاكرة تحتفظ بعسل قديم لن يعود لأنّ النّحل الذي بنى قفيره خدعته وردة النار وافترسته. رثى نخيلاً لم يعد قادراً إلاّ على أن يثمر دمعاً أحمر ينزل في لحم الصحراء خناجر...في «حطب باسق» قال قاسم زهير السنجري وطناً يحاول القفز من لعنة الدم إلى نعمة السلام، ويجرّب الموت الكثير لأجل قليل من الحياة، وأتى القول بلغة شعريّة تتّصف بوفاء مجازها لواقع الفجيعة.