محاولات تشخيص عوامل الخلل ومعوقات الإصلاح العربي، عمرها أكثر من قرنين، بدأت في أواخر القرن 18، في أعقاب الصدمة الحضارية بالغرب المتفوق الذي غزا المنطقة بأسلحته المتطورة وبتقنياته المبتكرة وبعلومه ومعارفه ونظمه المتقدمة التي أذهلت العرب وأيقظتهم من سباتهم وجعلت مفكريهم، يتساءلون: لماذا تقدم الغرب وتخلفنا؟ أين الخلل؟ كيف السبيل للإصلاح والتقدم؟ ظلت هذه التساؤلات مطروحة على المفكرين على امتداد القرنين 19 و20 إلى يومنا، تدفعهم للبحث عن تشخيص سليم لحالة التخلف العربي، تعددت التشخيصات وتعددت الحلول تبعاً لاختلاف المشارب الفكرية للمفكرين وكان من أبرزها:

Ad

1- الحل الديني: أقدم الحلول التي فسر بها العرب تخلف مجتمعاتهم، وهو "ابتعادهم عن دينهم وعدم تحكيم الشريعة"، وردد الخطباء الدينيون "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح بها أولها"، أي بما كان عليه السلف الصالح، لكن "أول الأمة" حالة إصلاح مقيدة بزمنها وليس مشروعاً إصلاحياً لكل زمان ومكان طبقاً لعبدالعزيز الخاطر، ويتبلور مضامين هذه الدعوة في شعار "الإسلام هو الحل" لكنه شعار فضفاض، فالحل الإخواني غير السلفي غير الصوفي، والحل السنّي غير الشيعي ثم أين البرنامج السياسي الذي يترجم الشعار؟!

2- الحل الديمقراطي: يرى أصحابه أن علّة التخلف كامنة في تجذّر ثقافة الاستبداد في المجتمعات العربي وأنظمتها الحاكمة، وقد رسخت هذه الثقافة حكم الفرد الزعيم وسوغته للجماهير، ولا حل إلا بالديمقراطية، ثقافة بديلة: قيماً وتربية وسلوكاً ونظماً.

3- الحل العلمي: يرى مفكرون عرب، أنه لا سبيل أمام العرب للتقدم إلا بالعلم والتقنية كما فعل الغرب، لكن التقدم العلمي في الغرب سبقه تنوير فكري.

4- الحل التعليمي: يرى معظم التربويين العرب أن إصلاح النظام التعليمي هو المدخل للإصلاح العام، وهذا صحيح، ولكن كيف يمكن إصلاح التعليم إذا كانت الثقافة المجتمعية ممانعة ومقاومة للإصلاح طبقاً لشملان العيسى؟

5- الحل الثقافي: يرى إبراهيم البليهي أن معضلة التخلف العربي "ثقافية" بالدرجة الأولى، والتخلف الثقافي، هو "العلة الأم" المغذية لأشكال التخلف الأخرى: السياسية والعلمية والدينية، فالأطفال يتشربون الثقافة المجتمعية منذ نعومة أظافرهم "تلقائياً" ويتبرمجون عليها، فتتشكل عقلياتهم وسلوكياتهم ونظرياتهم للآخرين، والعقل يحتله الأسبق إليه، فيشكل حاجزاً منيعاً أمام الإصلاح.

6- الحل العقلي: يرى الناقد الأكبر للعقل العربي "الجابري" أن علّة الإخفاق الرئيسية هي "العقل العربي"، فهو عقل ماضوي محكوم بأقوال القدامى ومصاب بآفتين: غياب الروح النقدية وفقدان النظرة التاريخية، لكن نقاد الجابري يرون في استخدام مصطلح "العقل العربي" خطأً علمياً، لأن العقل "ملكة إنسانية مشتركة"، وهو واحد لا تعدد فيه، فلا فرق بين عقل عربي وعقل غربي، طبقاً لديكارت "العقل أعدل الأشياء قسمةً بين البشر"، فالعقل واحد لكن "العقليات" متعددة، وهي مجموعة التصورات والمعتقدات والآراء والسلوكيات التي تتميز بها مجموعة بشرية دون سواها في أسلوب حياتها وطريقة تفكيرها، وتختلف العقليات باختلاف الشعوب وثقافاتها ومقدراتها على تفعيل آلية المراجعة والنقد، تعدد العقليات ميزة تثرى بها المجتمعات وترتقي عبر التفاعل الخلاق، و"العقلية العربية المسلمة" هي نتاج الثقافة الموروثة والسائدة، وهي كغيرها من ثقافات العالم فيها ماهو إيجابي فاعل وما هو سلبي معوق، فما هي العوامل السلبية المعوقة للعقلية العربية؟ هناك جملة أوهام هي أشبه بإعاقات فكرية تشل الذهنية العربية، من أبرزها:

1- وهم الماضي المزدهر: وهم غلاب، فالعقلية العربية مازالت أسيرة الماضي المجيد، ومازلنا نرجع للقدامى نلتمس حلولهم لمشكلات مجتمعاتنا المعاصرة، ومازال وكلاء الماضي هم المرجع العليا لمجتمعاتنا في الشأن العام، ومازلنا ننشغل ونستثمر في الماضي بأكثر من المستقبل، ماضي العرب كغيرهم من الشعوب فيه ما لهم وما عليهم، لكن المنهج الانتقائي في التعليم يستحضر اللحظات المضيئة في التاريخ ويغيّب ألف عام من الظلام!

2- وهم أعلوية الرجل: وهو وهم كبير ممتد من الجاهلية حيث كانت المرأة لا تحسن الكر والفر ولا تأتي بالغنائم، وجاءت تعاليم الإسلام لإنصاف المرأة، لكن التقاليد سرعان ماعادت وتغلبت، مازالت النظرة المجتمعية أن المرأة كائن عاطفي لا يحسن التصرف إلا بوصاية الرجل.

3- وهم التآمر العالمي: وهو وهم يحتل المساحة العظمى في العقلية العربية، فالعرب دون غيرهم من الأمم "أمة مستهدفة" أبداً، وذلك له امتداد تاريخي في تحميل اليهودي "ابن سبأ" وزر "الفتة الكبرى" قديماً، والإيمان بصحة "بروتوكولات صهيون"، والتآمر الغربي علينا "حديثاً" مع أن القرآن الكريم يقول إن مصائب المسلمين بما كسبت أيديهم، لا بسبب أميركا والغرب والموساد.

4- وهم تملك الحقيقة والأفضلية: وهو وهم غالب على الفرق الإسلامية في منازعاتها حول من هي الفرقة الناجية التي تدخل الجنة؟ عقيدة الفرقة الناجية مشكلة المرتكز الأساسي لمنهج الإقصاء الذي مارسته الفرق الإسلامية وكذلك السلطات الحاكمة، وهو ما يقوم به اليوم الإسلام السياسي في مصر.

5- وهم إحياء الخلافة الإسلامية: وهو وهم يسيطر على التيارات الإسلامية كافة الساعية إلى السلطة ويشكل لا وعيها، يقوم على تصور خلفية للمسلمين، يجمع بين يديه السلطات كافة: الدينية والتنفيذية والتشريعية والقضائية، فلا معقب لحكمه ولا قيد على سلطانه، وهو ما مثله الإعلان الدستوري للرئيس المصري مرسي.

6- وهم القنبلة الديموغرافية: وهو وهم سائد لدى قطاعات جماهيرية ونخبوية سياسية ودينية، مضمونها أن "تكثير النسل" هو السلاح الأقوى لمواجهة الأعداء، فالفلسطينيون يرون الإنجاب أفضل أسلحتهم ضد إسرائيل، والمسلمون في أوروبا يرون في تزايدهم مع تناقص مواليد الأوروبيين مصلحة إسلامية، والمسلمون عامةً يرون الكثرة العددية كثرة محمودة ومطلوبة، تضمن لهم الأغلبية طبقاً لما نشرته منظمة المؤتمر الإسلامي من أن عدد المسلمين عام 2025 سيفوق عدد أتباع الأديان الأخرى، والدعاة الإسلاميون يرون في سياسة "تنظيم النسل" مؤامرة غربية، وتحدى رمز إسلامي الغرب: إذا كان عندهم القنابل الذرية فعندنا القنابل البشرية! وهدد "نجاد" المصالح الأميركية بـ10 آلاف انتحاري.

كيف الخلاص من سلطة هذه الأوهام على العقلية العربية؟ بتشغيل وتفعيل آليات النقد والمراجعة، ورفع سقف حريات التعبير، وقيام أفراد المجتمع بتحمل مسؤولياتهم في نقد مجتمعاتهم وفي تغيير طريقة تفكيرهم وفي الانفتاح على الثقافات الأخرى والإفادة منها.

وبعد، فهذا أبرز ما جاء في ورقتي لمنتدى روما حول الإصلاح الإسلامي 7- 8 ديسمبر، بتنظيم مشروع "المصلح".

* كاتب قطري