تشريع التدويل
لكي نفهم التدويل علينا أن نفهم الدول وموقفها من التدويل، ولكي نفهم تلك المواقف علينا أن نستوعب النظام الدولي ذاته أثناء حقب التحولات التاريخية الكبرى.قبيل دقائق من منتصف ليلة العاشر من ديسمبر 1948 في إحدى ضواحي باريس، كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة على وشك أن تنهي التصويت على واحدة من أهم وثائقها، ألا وهي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ولا يكمن سر أهميتها في أنها تبدأ بجملة "يولد الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق" أو أنها تعلي من قيمة الإنسان وكرامته بصورة غير مسبوقة في المحافل الدولية، ولكن لأنها كانت أول وثيقة دولية شاملة، تتعامل بشكل مباشر لا لبس فيه مع مفهوم السيادة التقليدي.
حجم الإعلان كان صغيراً فلم يتجاوز 30 مادة، إلا أنه كان خريطة طريق قابلة للتنفيذ في أي مجتمع يريد الانتقال من الحالة العصبوية المركزية التمييزية إلى مجتمع يعيش فيه البشر بسلام وكرامة، وتكون السلطة ذاتها الضامنة لذلك السلام ولتلك الكرامة، وهنا كانت خطورة تلك الوثيقة. فقد كان الإعلان أول وثيقة يتبناها المجتمع الدولي، تمثل تحدياً واضحاً للمفهوم التقليدي لسيادة الدول الذي أسسته معاهدات وستفاليا سنة 1648، والذي جعل من تلك السيادة مقدسة. وربما فاجأت لجنة حقوق الإنسان الجميع، وعلى الأخص الدول الكبرى بقدرتها على إنجاز وثيقة تهدد ممارساتها، فأميركا كانت العنصرية ضاربة فيها حتى النخاع، وبريطانيا وفرنسا تَستعمران نصف العالم، والاتحاد السوفياتي بإمكانك أن تصفه بأي شيء إلا أنه دولة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان، ولذا كان هجوم الدول الكبرى على الإعلان بعد صدوره حادّاً، وبذلت كل ما تستطيع لمنع صدور اتفاقيتي الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فكان أن نجحت في تعطيل دخولهما حيز النفاذ لقرابة ثلاثة عقود، حيث صدرتا في مارس 1976، مستخدمةً لأجل ذلك جميع الوسائل والأدوات وأهمها "الحرب الباردة"، وفي الوقت الذي كانت فيه الجمعية العامة تدفع بالمبادرات كان مجلس الأمن معوّقاً لها. وبدخول الاتفاقيتين حيز النفاذ اكتملت ملامح "الشرعة" الدولية لحقوق الإنسان، وأصبح الانطلاق نحو التدويل أمراً واقعاً، وهكذا كان.وللحديث بقية.