سؤال رددته بيني وبين نفسي، وأعتقد أن الجميع كان مثلي في ذهول مما يحدث في دور العدالة في مصر والكويت، سؤال أعاد إلى ذهني أجمل وأبدع وصف لدور المحاكم في الزمن الجميل، وصف به وزير عدل سابق دور المحاكم عندما تقف ببابها ملقيا السمع إلى الصدى الذي يرتد إليك من أعماقها، ويخلص إليك من بين حناياها وأركانها في صمت وخشوع واحترام، فأنت على أبواب معبد، ولكن الرجع الذي يتردد بين الجدران صداه، وتدوي بين أعمدة القاعة تموجاته أو بقاياه، ليس مع ذلك أذان المؤذنين في مسجد، أو أنغام المرتلين في هيكل أو معبد، ولكن تلك دار العدالة، وهذا هيكلها وأنت في محرابها.

Ad

الوصف الذي وصف به الوزير الراحل محمد صبري أبوعلم قاعة محكمة الجنايات في مصر، الكائنة في حي شعبي في باب الخلق، وهي المحكمة التي اقترنت بتاريخ مصر السياسي والاجتماعي في قضايا جنائية اهتزت لها الحياة السياسية منذ أكثر من سبعين عاما جذبت إليها جمهوراً من الشعب المصري لمتابعة ما يجري فيها، ولم تسمع فيها من هذا الجمهور إلا هتافا واحدا "يحيا العدل" ولم يسمع فيها صوت واحد يسب قاضياً أو يهين محكمة، بالرغم من الأحكام التي كانت تصدرها في حق رموز وقامات رفيعة في الحياة السياسية المصرية.

ووقف في قفص الاتهام فيها من تولوا رئاسة مجلس الوزراء في مصر، الدكتور أحمد ماهر باشا ومحمود فهمي النقراشي باشا، واختيرت هذه القاعة لعقد جلسات مجلس تأديب لرئيس مجلس الوزراء مصطفى النحاس باشا ورئيس مجلس النواب ويصا واصف، بتهمة استغلال نفوذهما وتقاضوا كمحاميين قبل توليهما هذين المنصبين أتعابا باهظة لا تتناسب مع عملهما، في قضية كانت منظورة أمام مجلس البلاط الملكي، الذي كان يختص بالنظر في قضايا الأسرة المالكة، وأقيلت الوزارة، وبرئ المتهمان مع زميل لهما هو جعفر فخري بك المحامي.

وفي هذه القاعة انتقل في بعض القضايا السياسية بعض الأشخاص من مقاعد الشهود إلى قفص الاتهام، وفي هذه القاعة وقف الرئيس الراحل أنور السادات من بين المتهمين في قضية اغتيال أمين عثمان باشا؟

ووقف خلف السهام المدببة التي تحيط بقفص الاتهام المتهمون في قضايا مقتل أحمد ماهر باشا والنقراشي باشا، ومحاولة اغتيال مصطفى النحاس باشا أثناء مرور سيارته في شارع القصر العيني، ونسف بيته بعد هذه المحاولة بثلاث سنوات بسيارة مفخخة.

واستمرت الجرائم السياسية تطل برأسها على هذه القاعة وعلى غيرها من قاعات المحاكم الجنائية التي انتشرت في طول البلاد وعرضها لتشهد الحوادث السياسية الكبرى، ولتصبح هذه القضايا جزءا من تاريخ مصر، وكأن كلمة قضاة مصر فيها فصل الخطاب، وعرفت مصر في هذه القضايا قضاة أقاموا العدل ورسّخوا مبدأ سيادة القانون، فكانوا الحصن الحصين للحقوق والملاذ الأمين للحريات.

ولم تشهد مصر في تاريخها الطويل حصارا لمحكمة لمنع قضاتها من أداء رسالتهم السامية، كما حدث في حصار المحكمة الدستورية أو رئيسا للدولة يتهم أعلى محكمة في مصر وهي المحكمة الدستورية العليا بالتآمر على المؤسسات الدستورية، وهو ما أعطى الضوء الأخضر لحصار هذه المحكمة.

ولم يحدث في تاريخ مصر أن صدر عفو من رئيس الدولة عن عقوبة قبل أن يصدر بها حكم المحكمة، أو أن محكمة امتثلت لهذا العفو وأوقفت السير في الدعوى، وهو ما وعدنا في مقال الأحد باستكماله، إلا أن الأحداث الدامية عقب صدور حكم محكمة جنايات بورسعيد، والتي راح ضحيتها ما يقرب من سبعين مواطناً، وما حدث في قاعة من قاعات قصر العدل في الكويت، عجلني بكتابة هذا المقال، وإلى قراءة للعفو الرئاسي في الأسبوع القادم بإذن الله.